كانت تبكي بشدة عندما جاءنا اتصالها في وقت متأخر جداً من الليل، ما فهمناه من صوتها المتقطع وكلماتها غير المترابطة أنه قام بسرقة أغراضها للمرة «الألف ربما»، فعدد سرقاته معها واعتداءاته المادية تاريخها طويل لا يمكن حصرها في موقف أو اثنين.
الفاجعة هذه المرة أنه سرق هواتفها التي تحوي صوراً شخصية لها دون حجاب ليبيعها مقابل شراء زجاجة من الخمر.. معاناة طويلة عاشتها هذه الفتاة التي لم تتجاوز من العمر ثلاثين سنة، غير أن من يناظرها ويناظر «الهم» الذي أخذ يظهر كعنوان على ملامح وجهها يخالها تجاوزت الخمسين، ظلت على الهاتف أكثر من ساعتين تتحدث تارة وتعود للبكاء تارة وهي تخبرنا ما الذي من الممكن أن يحصل لها من فضائح ممن اشترى الهاتف من شقيقها المخمور ويتصرف في صورها الخاصة، تخمينات لسيناريوهات عديدة من الممكن أن تتعرض لها هذه الفتاة البريئة كالابتزاز والتهديد والإساءة لسمعتها، وكيف أن مستقبلها يضيع ويروح ممن من المفترض أن يكونوا أول الداعمين لها والمدافعين عنها ألا وهما أبوها وأمها.
والدها صاحب المواقف السلبية، فمهما حدث بالمنزل لا يتدخل ويبدو أنه يعيش في «سبحانيته وعالمه الخاص»، ولا يتعب نفسه في أي شيء، بل يلزم الصمت دائماً ولا يغادر غرفته رغم سلوك شقيقهم ووالدتهم التي لا يهمها سوى ابنها وتدليله وتلبية طلباته، حتى وإن كانت هذه الطلبات تهدمه وتضيع مستقبله هو وشقيقاته معه، حتى وإن وصل الحال إلى «تشغيل البنات» كخادمات له يأخذن الطعام له إلى غرفته دون أن تراعي مشاعرهن كبنات صغار بعضهن واظبن على خدمته وهن في المراحل الابتدائية والإعدادية يشاهدن أخاهم الضائع في غفلة السكرة ودون أن تخاف على أي خطر أو اعتداء قد يتعرضن له، بل وصل الأمر أحياناً أن تأخذ طبق الأكل الذي في يد إحداهن وهي تأكل وتمنحه إياه إذا ما أراده.
أما أعمامها وأخوالها وبقية أفراد أسرتهم فيبدو وكأن أمورهم لا تعنيهم، فهم يقاطعونهم منذ سنين، تقول هذه الفتاة: «عندما يقوم بسرقة الجيران أو أحدهم ويتم تقديم بلاغ ضده في الشرطة تسارع والدتي بعقد اتفاق مع هؤلاء بسحب القضية وتعويضهم مادياً، ودائماً عذرها يكون أنها لا تتحمل فكرة سجنه، هل لكم أن تتخيلوا حجم المبالغ والقروض المتكدسة على ظهر والدتي بسبب رفضها لمعالجة المشكلة؟»، هي لا تستطيع تجاوز مسألة أن ابنها مدمن ولابد من علاجه، بل هي تبقيه في المنزل وكل ما يهمها أن يظل أمام ناظريها ونحن من ندفع ثمن قرارها الخاطئ هذا منذ سنين طويلة، قلنا لها: يبدو من سلوكها أن عقلها الباطن يرفض تقبل فكرة أن يكون ابنها مدمناً! فجاء ردها: هي لا يهمها في هذه الدنيا سواه، وتخيلي الفاجعة الجديدة أنها تبحث عن زوجة له مدعية أنه من الممكن أن يعقل ويركد عندما يتزوج ببنت ستنضم «لشلة الضحايا» معنا، يبدو أنها فقدت ضميرها ولم يعد يهمها سوى راحتها وراحة ابنها.
شقيقاته اللواتي لم يعانين منذ الصغر من رائحة الخمر المنتشرة في المنزل وتصرفاته من تكسير وتخريب وبيع لأغراض المنزل فحسب؛ بل من سرقاته لكل شيء حتى ملابسهن النسائية الخاصة وعباءاتهن التي «عادي جداً» أن يجدوها معلقة في أحد الأسواق أو المحلات تباع بأزهد الأسعار، بل تجاوز الأمر إلى اقتحام غرفهن وفك أبوابها ونوافذها ليلاً لبيع الأغراض.
طلبت منها أن ترسله إلى مركز لعلاج المدمنين فردت عليّ: ومن سيساندني في هذا القرار؟ أمي التي دائماً عندما أكلمها تتشاجر معي وتقوم بالدعاء عليّ زعماً أني لا أشعر بها كونها «أماً»، ولا تتحمل فراق ابنها وترفض أن يفتضح أمرنا أمام الناس، قلنا لها: لكن أمركم مفضوح فعلاً؛ فتصرفاته أمام الناس وقيامه ببيع أغراضكم ونومه في الشارع أحياناً وهو «ما يدري عن روحه» بل ووصول الأمر إلى سرقة كوبونات إحدى الجمعيات الخيرية وبيعها على الناس كلها فضائح منتشرة بين الناس، فقالت: كل هذه المواقف لا تعني شيئاً عند أمي، المهم أنها لن ترضى أن يؤخذ منها ليتلقى العلاج، هي تريده أمام ناظريها فقط، هل لك أن تتصوري أنه كان يعمل في السلك الأمني وبدلاً من علاجه قاموا بفصله، كذلك القضاء بدلاً من أن يلزم والدي بمعالجته يحكم عليه بدفع غرامة وانتهى.
هذه التصرفات الأنانية التي تتخذها مثل هذه الأم دون العدل بين أبنائها تعكس أنها تتحكم في مصير حياة الجميع وتضحي بكل أبنائها مقابل شخص واحد، بالأصل هو غير مدرك لتصرفاته، ولن يعقل وقد اتخذ في الحياة درباً خاطئاً يسير فيه قد يعود منه وغالباً قد لا يعود.
هذه المشكلة واحدة من مئات المشكلات التي تتعلق بالإدمان على الخمر، والقضية عند البحث عن حلول لها نجدها معقدة نوعاً ما، فأولاً في البحرين لا يوجد تشريع يمنع شرب الخمر، أقله للمواطنين والشباب، رغم أن هذا الشخص قد أدمن في سن مبكرة جداً وقبل العشرين نتيجة انتشار مصانع الخمور ومحلاتها. وثانياً أنه لا توجد جهات تحمي الأطراف الأخرى المهددة بالاعتداء عليها أو على ممتلكاتها خاصة الشخصية. وثالثاً لا توجد جهة تضمن الحماية والدعم النفسي على من باتوا يجبرون أبناءهم على العيش بوضع لا يطاق ومصير يهدد حياتهم بالخطر أو على الأقل متابعة وإرشاد ضحايا مثل هذه القضايا، خاصة عندما يكون هناك إحراج مجتمعي متمثل في رفع قضية تجاه الأخ هذا أو الأم معه التي باتت تتحكم بمصير عائلة كاملة بمن فيها من بنات قاصرات وراشدات، وبالأصل هل لدى هؤلاء القاصرات وعي بما من الممكن فعله.
قلنا للفتاة: الواضح أن أمك تعاني من خلل نفسي وسلوكي جاء من صدمتها بما يفعله أخوك، فقالت: لم تعد تشعر بنا حتى وإن بكينا أمامها وتوسلناها أن تجد لنا حلاً معه أو عند تهديدها أننا سنغادر المنزل ونعيش في شقة لوحدنا بعيداً عنهم رغم أننا فتيات، الأهل يقاطعوننا ولا يوجد حتى من يستمع لنا أو نلجأ له وأخشى على شقيقاتي من الانحراف.
قصتها الموجعة هذه بالمناسبة ذكرتني بحادثة حصلت منذ فترة بسيطة هزت الوسط المحلي عندما تم حبس أب بحريني تولى الاعتداء على بناته الثلاث لفترة استمرت 6 سنوات، حيث كشف الأمر عندما باحت إحدى الفتيات لمعلمتها.
ما تكشفه مثل هذه الحوادث المتكررة أن هؤلاء الضحايا لا يعرفن إلى من يلجأن فيظللن يعشن في هذه المأساة لحين أن يجدن شخصاً من الممكن أن يبحن له وهو ما يكشف الخلل الحاصل في ما تبديه وزارة التنمية الاجتماعية من توفيرها لبيوت إيواء لمثل هذه الحالات، كما تظهر الحاجة لأن يكون هناك تشريع يلزم القضاء عند مطالعته لمثل هذه الحالات بإجراء دراسة اجتماعية إلزامية على بيئة ومنزل هذا المدمن وإلزامه بالعلاج طالما هو يشكل بإدمانه مصدر تهديد وخطر، خاصة على شقيقاته اللواتي يسكن معه في نفس المنزل، وطالما رب المنزل يكون راضياً وصامتاً في حين أن من يأكلها بناءً على قراراتهم الأنانية الأبناء الآخرون.
أرجو ألا يكون الرد أنه طالما لم تتقدم هؤلاء القاصرات بشكوى فلا يمكن الإلزام، فهذه القضايا حساسة جداً ومن غير المعقول والمنطق أن يشتكي أحدهم على والديه أو أهله أو يمتلك الجرأة، وبالأصل مثل هذه الحالات الأسرية تحتاج إلى تدخل من الجهات المتخصصة بالدولة للمساعدة والدعم والعلاج من باب المسؤولية الاجتماعية وحفظ أفراد المجتمع من مظاهر الانحراف، كما يحتاج هؤلاء القاصرون إلى الإرشاد النفسي بعد ما رأوه وما بأنفسهم من تراكمات نفسية بسبب سوء تعامل أولياء الأمور معهم، والذين يسرقون أجمل سنوات حياتهم وفق قراراتهم الشخصية بتكبد هذه المعاناة من منطلق عندما يكون عونك في الدنيا فرعونك.
- إحساس عابر..
إحدى المعلمات سربت لنا خبراً مفجعاً أكثر، حيث قالت لو تم إحصاء عدد قضايا زنا المحارم الواردة إلى أحد مراكز الشرطة بإحدى المحافظات لفجع من يطلع عليها، فهناك من هي حامل من عمها وهناك من هي حامل من أبيها وهناك من قامت بالهرب من المنزل بسبب اعتداءات والدها المتكررة عليها إلى منزل عمها الذي تولى إكمال المهمة بدلاً عنه، حيث يتم إدخال مثل هؤلاء الفتيات في منازل الإيواء سراً بعد توثيق قصصهم في مراكز الشرطة، والكل يعلم أن مثل هذه المنازل «بندول مسكن»، ولا توفر علاجاً جذرياً للمشكلة، خاصة من ناحية المعالجة النفسية لهن والعودة للاندماج في المجتمع.