في أحد برامج الإذاعة البريطانية بالعربية تناقشت المذيعة مع بعض المصريين والتونسيين عن ثورتيهما، تحدث المصري بفخر ذاكراً أنها الأصل والمحور إلى آخر الاعتزاز بمصريته وكل ما ينتمي إليها، فرد المتحدث التونسي بنفس المنطق بالنسبة لتونس وزاد بنوع من التفصيل عن ثورة تونس وأنها الأصل ومحور لما حدث بعدها. شعرت بحسرة وألم، فنحن كعرب نتمزق ويقلل بعضنا من شأن الآخر، وأفهم وأقدر اعتزاز كل مواطن ببلاده، أما تقليله من شأن الآخر فهذا لا يعبر عن انتماء عربي ولا عن حس وطني أو إنساني. وهذا من سيئات التراث العربي الجاهلي عندما كان يدبج الشعراء القصائد في مدح قبائلهم ويقللون من شأن القبائل الأخرى بطريقة غير لائقة، وأتمنى من المثقفين العرب في عصرنا هذا أن يرتفعوا لمستوى الأخلاق والشهامة العربية ولمستوى الموضوعية في التحليل والتفكير، والاحترام عند الحديث عن الآخر وأعجبني في هذا الصدد قول الإمام الشافعي رحمه الله:
تعلم فليس المرء يولد عالماً
وليس أخو علم كمن هو جاهل
فإن كبير القوم لا علم عنده
صغير إذا التفت عليه المحافل
وقول الإمام علي بن أبي طالب رضى الله عنه:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً
يغنيكَ محمودُهُ عنِ النسبِ
فليس يغني الحسيب نسبته
بـــلا لســـانٍ لـــــــــه ولا أدب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
ليسَ الفتى من يقولُ كان أبي
أليس في ذلك القول الفصل في رفض علاقة النسب أو القرابة بالسياسة، وإنما المعيار هو الكفاءة والنزاهة والمؤهلات الخاصة بالفرد، وأتذكر قول النبي الكريم عندما تفاخر بعض المسلمين الأوائل فقال له «إنك امرؤ فيك جاهلية».
وللحديث عن ثورتي مصر وتونس جعلني أتذكر كتابين لباحث مصري، لذلك أتناولهما في عجالة، وهما للمفكر القومي العروبي كارم يحيى الذي زار تونس عدة مرات وكتب عنها كتابين الأول بعنوان «نظرتان على تونس بعين مصرية.. من الديكتاتورية للديمقراطية»، والثاني «مقارنة بين زين العابدين بن علي وحسني مبارك»، وقد نوقش الكتاب الأول في عدة منتديات فكرية ونوقش الثاني في معرض القاهرة الدولي للكتاب في أواخر يناير الماضي.
وبعد قراءة الكتابين، وكمتابع وباحث أود أن أبدي الملاحظات التالية..
الأولى؛ إن حجم الدول وأهميتها لا تقارن بالمساحة ولا بالسكان ولا بالثروة الطبيعية إنما بما أنتجته من إبداعات، وما سجله لها التاريخ، وأقول إن تونس يكفيها فخراً أن يطلق عليها اسم «أفريقيا» في العصور القديمة، وأنها أنتجت أهم عالم ومفكر عربي إسلامي، عبدالرحمن ابن خلدون، وأنها أخرجت أهم باعث للثورات عبر العصور بفكر ثاقب هو أبو القاسم الشابي، وأخرجت أحد أبرز دعاة الإصلاح خير الدين التونسي وغير ذلك.
أما مصر فليست في حاجة للحديث عن إنجازات شعبها الحضارية، فحضارتها شامخة تتحدث عن نفسها وأترك ذلك لكاتب تونسي يتحدث عنها أو لغير مصري، فهو أجدر بذلك كمواطن عربي، لكنني أشير إلى ما قاله كاتب أمريكي من أصل لبناني هو فؤاد عجمي في كتابه المعنون «المعضلة العربية» والذي نشره بعد ذهاب أنور السادات للقدس وهجوم العرب ضده. وتضمن الكتاب تحليلاً للفكر والواقع العربي في ثلاثة فصول، فصلان منه يتناولان مصر وسياستها وفكرها ودورها، والثالث يتحدث عن باقي الدول العربية.
الثانية؛ كانت الثورتان التونسية والمصرية سلميتين إلى حد كبير، وتتشابه الدولتان في تخلي الرئيس بسهولة عن السلطة أياً كانت الطريقة، كما تتشابه الدولتان بالخضوع للديكتاتور لسنوات طوال وكانت ثورتاهما مفاجأة وعكس التوقعات، وأخيراً تتشابهان في ركوب الإسلاميين للموجة الثورية ومحاولة الاستيلاء عليها. وإن كان الفارق أن حزب النهضة عاش قادته في أوروبا كثيراً فأصبحوا أكثر عقلانية من نظرائهم في مصر الذين ركزوا على الإقصاء والتشدد، ثم إن القوى الليبرالية التونسية كانت أكثر إيماناً بالديمقراطية من نظيرتها المصرية.
لكن الحالتين واجهتا تحديات ترتبط برد الفعل الدولي الذي كان أكثر عنفاً ضد مصر، وقيادة أمريكا للحركة الإسلامية مساندة لتركيا والشقيقة قطر من خلال قناة الجزيرة، فضلاً عن إيران راعية ولاية الفقيه، وهذه الحالة لم تتعرض لها تونس وثورتها، وأترك للقارئ أن يحلل لماذا في حالة تونس كان رد الفعل العالمي والعربي والإقليمي مختلفاً عن رد الفعل تجاه مصر. ولاشك أن لكل حالة خصوصيتها وظروفها وموقعها الجيوستراتيجي ودورها الدولي والإقليمي والعربي، ولكل دولة تاريخها، وهذا منطقي بالنسبة لكل دولة والفكر النمطي هو فكر غير علمي، فلا يمكن أن تكون حالة دولة ما مثل حالة دولة أخرى مهما كانت أوجه التشابه بين الدولتين فهناك عناصر للخصوصية.
الثالثة؛ أشار لها الباحث المصري كارم يحيى بأن ثمة فورة نقدية لثورة تونس ضد بن علي، بينما حرص كثير من المثقفين والسياسيين ورجال الأعمال المحيطين بمبارك على التأكيد أن مصر غير تونس، إلى الحد الذي جعل آخر وزير خارجية لمبارك يركز على ذلك في تصريحاته، وهذا من قبيل الغرور من أنصار نظام مازال قائماً آنذاك ضد نظام منهار، وسرعان ما انهار النظام القائم في مصر ولحق بنظام بن علي، مع اختلاف في القوى التي ساندت الثورة في مصر، حيث كانت القوات المسلحة، وفي تونس لزمت القوات المسلحة الحياد، وتحركت القوى الثورية بدرجة أكبر من حيث النشاط والحركية.
من ناحية ثانية أمكن خديعة بن علي وتسفيره للسعودية، وأمكن خديعة مبارك بدرجة أقل ونقله لشرم الشيخ، وإجباره على التخلي عن السلطة ولو مؤقتاً، ثم تحول الأمر لثورة عارمة ضد بن علي وضد مبارك، وإن كان عدم تحركهما بنشاط ضد الثورة، بخلاف ما حدث في دول أخرى، ولذلك حمى الله شعب تونس ومصر من الدماء الغزيرة التي سالت في العراق وسوريا وليبيا، وكذلك من التدخل العسكري الأجنبي المباشر.
الرابعة؛ جمع الباحث كارم يحيى في كتابه «نظرتان على تونس» بين كتاباته منذ عام 2005 وما بعد الثورة، وقارن بين حالات الهدوء والاستقرار المزيف في تونس وهو ما أحدث المفاجأة، وأعتقد أن نفس الحالة كانت في مصر؛ حيث استقرار مزعزع وتنمية مزيفة وخداع النخبة المثقفة والسياسيين للحاكم الفرعون في مصر وأيضاً في تونس، ولذلك لم يصدق أن الشعب ثار ضده، وكان ذلك نتيجة القصور الفكري للحاكم في كلتا الحالتين، وإن اختلفت ثوراتها من حيث حجم إراقة الدماء والتدخلات الإقليمية والدولية.
الخامسة: مؤلفات كارم يحيى كانت تعتمد على الاحتكاك المباشر بتونس ومثقفيها، من خلال مقابلات وحوارات مع رضا بلحاج، وعياض بن عاشور، وكلثوم كنو، وكمال العبيدي، وعبدالفتاح عمر، وتوفيق بودربالة، وفتحي نوري، وكمال الجندولي، وغيرهم، لكن ما يلفت النظر اللقاء مع راشد الغنوشي الذي كان ناصرياً في البداية ثم تحول إلى تيارات الإسلام السياسي بعد هزيمة 1967.
السادسة؛ إن الإسلاميين في تونس لم يصروا على مفهوم الشريعة في الدستور الجديد بخلاف أقرانهم في مصر، حيث أعد الإخوان دستوراً إخوانياً عام 2012، ثم في دستور ما بعد الإخوان عام 2013 أصر السلفيون على تضمين الشريعة كمصدر للتشريع مع تخفيف المفاهيم والاعتدال نسبياً ورفضوا مفهوم الدولة المدنية بخلاف الحالة التونسية.
السابعة؛ إن الإسلاميين والليبراليين في تونس كانوا أكثر تأثراً بالثقافة الفرنسية والبريطانية من نظرائهم المصريين، ربما لأن التونسيين عاشوا طويلاً في هاتين الدولتين، بينما المصريون كانوا أقل تأثراً بهاتين الدولتين. أما الإسلاميون الذين عاشوا في أوروبا، أمثال الهلباوي والخرباوي ومختار نوح وغيرهم انفصلوا عن الحركة الإسلامية التي ظلت قيادتها خاضعة للاتجاه المتشدد المتأثر بفكر سيد قطب، والانقلابية العنيفة في حازم أبوإسماعيل ومحمد البلتاجي وخيرت الشاطر، ثم جاءت المفارقة الكبرى في محمد مرسي الذي اختاره المصريون رئيساً، ثم انقلب ليصبح رئيساً للعشيرة والإخوان ويسعى للسيطرة، فلم يستفيدوا من تجربة الديمقراطية التركية منهجاً والتدرج أسلوباً، ولم يستفد حزب الحرية والعدالة المصري من تجربة وفكر حزب النهضة الذي اعتمد العقلانية والاعتدال والمرونة في تعامله مع خصومه، بخلاف إخوانهم في مصر الذين حاول كل منهم سواء الإسلاميين أو الليبراليين إقصاء الآخر، مع لجوء الإسلاميين للعنف والتدمير والإرهاب والذي فضح دعواهم بالانتماء للإسلام، وكشفهم، وأبرز زيفهم شخصيات عقلانية انفصلوا عنهم أمثال الهلباوي والخرباوي ومختار نوح وغيرهم، وبالطبع كانت حالة الشيخ يوسف القرضاوي تمثل حالة من عقدة العظمة التي تعتري كثيرين من كبار السن الذين تطلعوا للمناصب ولم يحصلوا عليها. وهناك صحافيون مصريون مشهورون بذلك المرض النفسي اعتزلوا الصحافة ثم عادوا إليها فشتموا ومدحوا الآخرين وفقاً لأهوائهم وميولهم وعطائهم لهم، وهناك سياسيون تركوا أوطانهم السليبة ليناضلوا في فنادق الـ5 نجوم، وهكذا أصناف البشر كل يغني على ليلاه وينسى كثيرون العلم والمصداقية والموضوعية والحياد والوطنية التي كانوا ينادون بها.
الثامنة؛ اتسمت كتابات كارم يحيى عن تونس ومصر بقدر كبير من الموضوعية والمنهج العلمي الصحافي في اللقاءات المباشرة والمقارنات العلمية المحايدة، وهذا ما يجعل لكتاباته قيمة ومصداقية بخلاف صحافيين آخرين أكلوا على كل الموائد وشكروا أصحابها ثم هاجموهم، وهكذا أطلق عليهم في مصر لقب «المتحولون» ثم هناك المتحولون من المفكرين الذين أصبحوا دعاة حقوق الإنسان وساروا في الركب الأمريكي باعتباره يمثل القوة العظمى، وفي ركب الإسلام السياسي الطائفي باعتبار الإسلام هو القوة الصاعدة، ونسوا فكرهم الوطني وانتماءاتهم القومية ومنهجهم الذي تربوا عليه، ومن ثم يمكن أن نطلق عليهم «المتحولون»، ولعل هذا ليس سمة عربية بل حدثت في أوروبا في عصر النهضة وحتى في القرن التاسع عشر حيث كان اليساريون يتحولون لليبرالية والفوضوية والعكس.
تلك ملاحظات على هامش كتابات كارم يحيى وعلى أحداث ثورتي تونس ومصر، وكلاهما يعتبر نموذجاً فريداً في الثورات على الأقل في حيوية الشعبين ودور القوات المسلحة والشرطة في حماية الشعب، وليس قمعه مثلما حدث في دول أخرى، وهذا ربما من حسنات ديكتاتورية بن علي ومبارك إن أياً منهما لم يكن ذا فكر طائفي، وإنما كانا يفكران بمنظور سياسي ديكتاتوري ظالم للجميع بالتوازي.