قبل عدة أيام أرسل لي الصديق الجميل أيمن عبدالقادر صالح تقي، والذي كان بيت والده يلاصق بيتنا عندما كنت في الحورة، أرسل لي عبر الإيميل إحدى القصص المؤثرة، والتي تحتاج إلى العديد من القراءات للتأمل فيها والعمل على ممارستها في حياتنا اليومية. تقول القصة..
شنسوكي هاشيدا، شاب ياباني كان يعمل صحافياً، قادته مهنته إلى العراق عام 2004 لتغطية أحداث الفلوجة، الشاب هاشيدا وخلال وجوده هناك صادف في مارس 2004 طفلاً عراقياً عمره 9 سنوات من أهل المدينة اسمه محمد هيثم كان قد تعرض لاختراق شظية بإحدى عينيه، مما كان سيهدده بالعمى الكامل بمرور الوقت إذا لم تتم معالجته.
في ذلك الوقت كان معظم جراحي العيون الكبار في بغداد قد غادروا العراق بسبب جرائم الخطف وطلب الفدية التي ازدهرت في العراق بعد الاحتلال، والتي أفرغت العراق من كبار أطبائه وجراحيه، لذا لم يكن بالإمكان علاج محمد في العراق، فما كان من السيد هاشيدا إلا أن وعد عائلة محمد بأنه سيعود قريباً بعد أخذ الموافقات في بلاده ويصطحبه إلى اليابان لعلاجه هناك على نفقة الشعب الياباني، وبراً بوعده وبعد أن أجرى كل ترتيبات العلاج عاد السيد هاشيدا في مايو2004 إلى العراق ثم إلى الفلوجة لاصطحاب محمد وعلاجه، وهنا حدثت المأساة؛ حيث شاء حظه العاثر أن يقع بأيدي المقاومة العراقية العمياء، والتي لا تفرق بين عسكري أمريكي وصحافي ياباني فقتلوه مع خاله الصحافي أيضاً، والذي كان يبلغ من العمر 65 عاماً ومعهم المترجم.
هكذا لقي السيد هاشيدا جزاء إنسانيته، لكن هيهات أن تبرد نيران الثأر لدى عائلته التي صممت على الثأر لمقتله، لكن ليس على طريقة (النار ولا العار) ولا بالقسم إن (الدماء التي سالت لن تذهب هدراً)، وبالتأكيد ليس وفق شعار يا لثارات الشهداء..
إذاً كيف انتقمت اليابان وعائلة هاشيدا لمقتل ابنها غدراً؟
أولاً؛ الحكومة اليابانية انتقمت بأن أنشأت بالتعاون مع وزارة الصحة اليابانية صندوقاً لبناء مستشفى مزود بأرقى الإمكانيات الطبية لعلاج الأمراض السرطانية للأطفال برعاية الأمم المتحدة، بعد أن تبرعت بالملايين اللازمة لإكمال المشروع الذي افتتح في الفلوجة في مارس 2013 ويعمل فيه 30 حالياً طبيباً وطبيبة.
أما عائلة المرحوم هاشيدا فلم تشأ أن تترك ثأرها ورغبتها في الانتقام لمقتله، فقامت بالوفاء بالعهد الذي قطعه فقيدهم وأحضروا محمد هيثم إلى اليابان وعالجوه وأنقذوا بصره بعد شهر واحد من مقتل فقيدهم، ومحمد هو اليوم في ريعان الشباب وقد عاد الأمل في الحياة إلى قلبه، ولم تكتف أرملة هاشيدا بذلك؛ بل أنشأت مشروعاً خيرياً باسم زوجها الشهيد لمنفعة الأطفال في العراق، وكان هذا المشروع هو المحرك المحفز للحكومة اليابانية لبناء المستشفى أعلاه.
إن كل من يتكلم عن الأخذ بالثأر من شخص آخر هو في تصوري إنسان يحتاج إلى العلاج، لأنه ليس بالثأر تحل الأمور بين الناس، نحن نعرف الآية الكريمة في كتابنا العظيم (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ) (الشورى).
إن هذه العائلة اليابانية طبقت قول الله سبحانه وتعالى فمن عفا وأصلح فأجره على الله. لذلك أتمنى من كل قلب فيه شيء من الغل أن يعاود قراءة ما كتبت، ربما يفهم معنى أن يكون إنساناً يستحق كلمة الإنسان.