قالت لنا بعد أن وجدناها أخيراً عقب اختفائها بضعاً من الوقت مع زميلتها من فئة الأيتام وقد طلبنا منها إرجاع الملابس التي أخذتها لتقوم بقياسها في غرفة تبديل الملابس بأحد المجمعات التجارية لعدم وجود وقت كافٍ لذلك، وأخبرناها بأنه بإمكانها الحضور في وقت آخر وأخذها من خلال «كوبونات» الشراء المجانية التي منحناها إياها: «إن قمت بإرجاع الملابس الآن فلن يحضرني أي أحد بعدها لأخذها.. لا يوجد أحد سيصطحبني أنا وزميلتي لشراء هذه الملابس!!».
تلك الجملة هزتنا كثيراً أيامها، وكشفت لنا واقعاً قد نكون لم ننتبه له وسقط سهواً من حساباتنا وسط غمرة الانشغال في متابعة الأيتام في الجولة التي كنا ننظمها لهم، حيث كنا منذ سنين ماضية، وخلال فترة النشاط الجامعي، ننظم سنوياً كأحد أعضاء مجلس إدارة الأندية الطلابية نشاط رحلة الأيتام خلال أيام العيد بالتعاون مع أحد مراكز رعاية الأيتام وبالتنسيق مع عدد من المطاعم والمحلات التجارية، وكنا نقوم باصطحاب الأيتام منذ الصباح الباكر إلى المجمعات التجارية لتناول وجبات الإفطار والغداء واللعب وتقديم الهدايا والألعاب المجانية لهم إلى حين المساء، كنوع من أنواع التكافل الاجتماعي مع فئة الأيتام ولدعمهم نفسياً وبذر الفرح في نفوسهم أسوة ببقية الأطفال.
كان ضمن البرنامج أيضاً وبالتعاون مع أحد المحلات التجارية تقديم «كوبونات» مجانية لشراء الملابس وحاجيات العيد، ويبدو أنه قد فات علينا وقتها أن «الكوبونات» لم تكن مهمة عند هؤلاء بقدر من سيأخذهم لهذه المحلات واصطحابهم وسط أجواء من المودة والحب والتراحم وتخصيص وقت معين ضمن البرنامج لجعلهم يأخذون منها ما يشاؤون لا تقديم هذه «الكوبونات» لهم لصرفها في أيام لاحقة، حيث تبين لها أنها لم تكن لها قيمة طالما لن يكون أحد معهم يصطحبهم ويختارها لهم ويعاينها، قالت لنا ببراءة فيها نوع من الانكسار الداخلي ومسحة حزن وهي متمسكة بالملابس التي في يدها رافضة إرجاعها: «لا يوجد أحد سيصطحبني إلى المجمع لشراء هذه الملابس.. دعوني أقوم بتجربتها ولن أتأخر في ذلك عنكم!!».
طيلة الرحلة كنت أتعمد الإمساك بهم باليد والجلوس في باص الرحلة وسطهم واحتضانهم ومصادقتهم لنيل شيء من الفضفضة العابرة، كان من الواضح أن لهؤلاء الأيتام شيئاً أكثر أهمية من برنامج الرحلة الحافل والجميل، وهو التفاعل معهم ضمن جدول البرنامج، حيث كان واضحاً أن فرحهم يزداد وشعورهم بالعيد يكون حاضراً بعد أن أثبتت ذلك الرحلات المتكررة معهم سنوياً ومشاركتهم اللعب ومصادقتهم والقيام بدور ولي الأمر معهم الذي يغمرهم حباً وعطفاً.
قالت لي زميلتها ببراءة شديدة، والتي كانت تتنافس معها في مصادقتي ونحن في السيارات، وكأنها تكشف لي اعترافاً مخجلاً بعد أن ظلت متحفظة قليلة التفاعل والكلام معنا: «هل تدرين أنني يتيمة ووالدي متوفى؟»، فهمست لها حينها وكأنني أخبرها سراً: «عادي جداً.. وأنا أيضاً يتيمة ووالدي متوفى والرسول عليه أفضل الصلاة والسلام نشأ يتيماً أيضاً!!»، فشعرت حينها وكأن ملامح وجهها المضطربة والخجولة قد ارتاحت قليلاً، فراحت تقول لي في وقت لاحق، وقد شعرت أن ثقتها بنفسها قد ازدادت بعد أن وجدتها تتغير وتتفاعل مع المحيطين بها من المنظمين: «في المدرسة تقوم المعلمة بضربي كما تقوم الفتيات بشد شعري ومضايقتي، ولا يوجد أحد ينتبه لما يحدث لي!»، تأملتها فوجدت غرة شعرها الطويل الجميل قد قصت بشكل غير مرتب، فلما سألتها قالت لي: «قامت الفتيات بقصها لي بالمقص وقد حاولت تعديلها حتى تكون متساوية الطول!»، فهمت أن معاناتها تكبر وهي لا تجد أماً تقوم بتعديل غرتها أو اصطحابها للصالون أو الدفاع عنها حتى!
في تلك الأيام اكتشفنا كمنظمين لمثل هذه البرامج أن هناك كثيراً من فئات المجتمع التي تحتاج إلى شيء من الدعم النفسي ومدها بزاد الفرح والراحة والاهتمام أكثر من تغطية مصروفات العيد لها وتلبية حاجاتها المادية للتحضير والتجهيز للعيد، إن مسحة الحنان والاهتمام بهم شخصياً ومصادقتهم والتجول معهم في تلك الأماكن ومتابعتهم واللعب معهم لتعويض فراغ الوالدين اللذين رحلا عنهم أهم بكثير من «كوبونات» الشراء المجانية ووجبات الإفطار والغداء التي نوفرها لهم، خلال تناول الوجبات لم يكونوا يأكلون بقدر ما كانوا يتكلمون ويفضفضون لنا عما يحصل في أيامهم وما يتعرضون له. تلك اكتشافات بينت لنا أن تنظيم الفعاليات التي تدعم فئات المجتمع لن تكون ذات أهمية ومؤثرة إن لم يرافقها نوع من العطاء في المشاعر والاهتمام، وأن أعلى المراتب في ذلك والفرص تكون خلال أيام المناسبات أهمها فترة الأعياد!
يخال البعض العيد واجهة للتواصل الأسري مع عائلاتهم، وإن جل واجباتهم خلال أيامه إشاعة ثقافة الفرح بين بعضهم بعضاً، وقد يسقط الكثير منهم أن العيد فرصة للتكاتف الاجتماعي والتراحم وعهد لتجديد ثقافة العطاء مع الآخرين من أفراد المجتمع، وإن هناك فئات كثيرة لا تحتاج في العيد لمدها بمصروف لشراء مستلزماته وتغطية مصاريفه فحسب؛ وكأنه بذلك قد أدى الواجب معهم وانتهى بل التفاعل معها هو الأهم، أن تمنح طفلاً يتيماً عيدية وملابس شيء جميل؛ لكن الأجمل والأكثر مصداقية في العطاء بالنسبة له هو أن تعطيه ما ينقصه حقاً؛ أن تعطيه عيدية من مشاعر الحب والتراحم والاهتمام وتسد فراغ والديه ولو ليوم واحد!
فالعيد يشكل ذكرى مؤلمة تجاه هؤلاء الذين وجدوا غياباً ومكاناً خالياً لمن رحلوا عنهم ولم يشهدوا العيد معهم وباتوا يقضون الأعياد دونهم، ففي أيام العيد تختلط المشاعر عند هؤلاء أمام ثقافة الفرح التي تعم كل الأرجاء والأماكن، وأمام ذكرى الحزن التي تطرق ذاكرتهم ليالي العيد وتملؤهم وحشة وحنيناً وتشعرهم بالغربة والوحدة، وهم لا يجدون والديهم معهم، خصوصاً عندما يجدون أقرانهم يحتفلون مع عائلاتهم ووالديهم بالعيد، فالعيد منبه يوقظهم على واقع أنهم يمضون أعياد عمرهم من دون والدين يختاران لهم ملابسهم ويمنحانهم شيئاً من الأمان الداخلي والثقة، هناك حاجة لكل واحد منا بمد جسور الحب والعطاء مع هذه الفئات وإشاعة الأجواء الأسرية لديهم التي يفتقدونها. إن رعاية الأيتام بالمشاعر والاهتمام أهم من كفالتهم مادياً، ولابد من الجهات ومؤسسات المجتمع المدني التي تتولى دور كفالتهم وضع هذا في الحسبان، فليجرب كل من يعرف يتيماً كفالته عاطفياً وبمشاعر الحب وستكشف له الأيام أن هذا النوع من الكفالة أقوى بكثير ومؤثر ويدوم في نفسه أطول، بالمناسبة الطفلة اليتيمة «فاطمة» التي اعترفت لي بيتمها قبل شهر تواصلت معي عن طريق «الفيسبوك» بعد أن بحثت عني ووجدتني وكانت كلمتها لي «لم أنسكِ أبداً معلمة منى، هل تذكرين عندما كنت معكِ ألعب؟»
- إحساس أخير..
«ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح».