بعد أكثر من ثلاثة عقود من قيامه، يعقد مجلس التعاون لدول الخليج العربية مؤتمره في الكويت في ظل أجواء مختلفة تماماً عن تلك التي اعتدنا عليها، أجواء تتسم بتقلص مساحة الهاجس الأمني الذي ولد عليه المجلس وترعرع وكبر، وبروز أجواء جديدة تدعو إلى تغليب المصالح الاقتصادية وإقامة شراكات استراتيجية.
تأسيس مجلس التعاون في عام 1981 كان التجربة الثانية لتكتل بين دول الخليج، أما التجربة الأولى فكانت في عام 1968 عندما أعلنت بريطانيا أنها ستنسحب من إمارات الخليج التسع (البحرين، قطر، أبو ظبي، دبي، الشارقة، أم القوين، عجمان، رأس الخيمة، والفجيرة) وذلك في موعد أقصاه عام 1971.
وقع هذا الإعلان على هذه الإمارات وقع المفاجأة المخيفة، فقد وجدت نفسها غير مستعدة لمواجهة ما قد يترتب عليه هذا الانسحاب السريع من أعباء ومخاطر.
فقد كانت هذه الإمارات (غير المسلحة) ولسنوات طويلة تحتمي بالمظلة العسكرية البريطانية، وانكشافها يعني تركها لقمة سائغة أمام التهديدات بابتلاع بعضها أو أجزاء منها، ولعل أبرز تلك التهديدات المطالبة الإيرانية بالبحرين، وخلافات أو مطالبات حدودية أخرى...
وتفادياً لهذا الانكشاف حاول الخليجيون تأجيل الانسحاب البريطاني بضع سنوات إضافية حتى تتمكن إماراتهم من بناء قوات عسكرية تجابه بها التهديدات والمخاطر المتوقعة، لكن الإنجليز رفضوا هذا التأجيل، وعوضاً عن ذلك نصحوهم بالتكتل في كيان واحد قادر على توفير القوة والأمن والدفاع عن أراضيهم.
وبالفعل تداعى حكام الإمارات إلى اجتماعات ماراثونية، وشكلوا لجاناً، واستعانوا بالخبراء، وبمشورة الكويت والسعودية، وانتهت جهودهم الحثيثة (تقريباً) إلى وضع اللمسات الأخيرة على تكتل سموه الاتحاد التساعي أو اتحاد الإمارات العربية.
وأقول تقريباً لأن الحماس لإعلان هذا الاتحاد سرعان ما بدأ يتسم بالفتور، وبدأت الحجج المعطلة له تبرز الواحدة تلو الأخرى بعد حوالي عامين من العمل الجاد لتأسيسه وذلك لأن موجبات أو دواعي قيام هذا الاتحاد لم تعد موجودة، وعلى رأسها مطالبة إيران بالبحرين.
وبحلول عام 1971 أصبح الاتحاد الكونفدرالي الموعود في خبر كان، وعلى أنقاضه أعلن عن قيام ثلاث دول مستقلة هي دولة البحرين ودولة قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة. التجربة الثانية جاءت في عام 1981 أي بعد الثورة الإسلامية الإيرانية بعامين، هذه الثورة التي أعادت بقيامها التوتر الأمني، والتهديدات السابقة، بل والأكثر من ذلك الرغبة في تصدير الثورة إلى دول أخرى، وبعبارة أوضح أعادت الهاجس الأمني إلى دول الخليج.
من جديد سعت هذه الدول إلى تشكيل تكتل جديد هو مجلس التعاون لدول الخليج العربية بهدف تحصين نفسها ضد تصدير الثورة الإيرانية، والتصدي الجماعي للهاجس الأمني الجديد.. الذي بقي هو الدافع الأقوى لقيام المجلس، وأصبحت إيران هي المصدر الأساس للتهديد الذي يسيطر على كل أبعاد الصورة.
تطورت الأمور سريعاً مروراً باحتلال السفارة الأمريكية في طهران، ثم الحرب العراقية الإيرانية، ووقوف الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون إلى جانب العراق، ويوماً بعد يوم شعرت إيران بتنامي العداء من قبل القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وبأن هناك مخططاً للتضييق عليها ودفعها نحو العزلة ومن ثم التراجع عن مواقفها المتشددة.
وما كان منها إلا أن ردت على ذلك بالتمادي في التهديد، والتسلح، والظهور كدولة قوية، وقوة إقليمية رئيسة تمتد نوافذها في اتجاهات مختلفة وبعيدة، ثم ما لبثت أن دعمت ظهورها القوى هذا بالعمل على امتلاك الطاقة النووية بدءاً من إحياء مفاعل بو شهر الذي أنشأه الشاه، وغيره من المفاعلات وعمليات التخصيب وغيرها، والتي حرصت على إبقائها غامضة ومثيرة للتكهن والجدل ومصدراً للخوف الدائم لدى الجميع.
كان هدف إيران على الدوام هو الاعتراف بها كقوة إقليمية رئيسة وقبول الولايات المتحدة التفاوض المباشر معها تجسيداً لهذا الاعتراف، ومن أجل بلوغ هذا الهدف صمدت إيران أمام التهديدات بضربة عسكرية أمريكية تحطم كل مفاعلاتها النووية، وأمام سلسلة من العقوبات التي فرضت عليها من قبل الأمم المتحدة والدول الغربية وشملت أهم مفاصل الاقتصاد والتسلح والودائع المالية.
وعلى مدى هذه السنوات، وكجزء من إثبات أنها دولة إقليمية رئيسة تدخلت إيران في كل اتجاه وبوسائل وطرق مختلفة بما فيها تصدير أو تهريب السلاح إلى دول أو جماعات وميليشيات في دول.
غير أن النصف الثاني من العام الحالي 2013 جاء بصورة إيران المتعبة من الضغوطات والعقوبات التي مورست عليها، والتي باتت تهدد الوضع الداخلي بالتململ والتذمر ومن ثم الانفجار.
هذه الصورة فرضت تبني استراتيجية جديدة تستفيد من النتائج التي حققتها الاستراتيجية السابقة، وكان انتخاب حسن روحاني هو السبب والمنطلق لتنفيذ هذه الاستراتيجية والتي تتمثل في التحول من المجابهة والتحدي والتهديد بالحرب والتلويح بالسلاح، إلى الحديث عن التعاون والصداقة والشراكة الاستراتيجية والعمل المشترك في مناحي الاقتصاد والسياسة وحل كافة مشاكل المنطقة. وعلى الرغم مما تحقق في اجتماع نوفمبر في جنيف، فإن ذلك لم ولن يؤدي إلى تغيير جذري في سياسة وعلاقات إيران مع حلفائها والأطراف الأخرى المضادة، وكذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها الخليجيين والدول الغربية. فالتغيير يحتاج إلى اختبار مدته ستة شهور، تتخللها وتعقبها خطوات متدرجة ومتزامنة، فلا أحد سيتخلى عن حلفائه وسلاحه ومجالات ضغطه بسرعة ودون مقابل. ومع ذلك فإن ما رصدناه من تصريحات وزيارات ولقاءات ومواقف ومتغيرات من كافة الأطراف تدلنا على ما يلي:
1. إن الولايات المتحدة تضع على سلم أولوياتها دائماً مصلحة وأمن وتفوق إسرائيل، وكما نجحت في تحقيق ذلك بتدمير الأسلحة الكيمياوية السورية، فإنها نجحت حتى الآن في منع أو تخلي إيران عن امتلاك السلاح النووي، وما يفعله نتنياهو من إزعاج ما هو إلا تكثيف الضغوط من أجل الإسراع بإنجاز هذا الهدف.
2. كما قلنا من قبل فإن الولايات المتحدة لن تنسحب من المنطقة ولن تغلق قواعدها ولن تتخلى عن حلفائها الخليجيين، لكنها وبحكم الأوضاع المالية المتردية، والمتغيرات الداعمة للتخلي عن الحروب بأنواعها وأحجامها، فإن التغيير المتدرج، والمتناسب مع التغيير في الجانب الإيراني سيحدث في المستقبل، وعلى مجلس التعاون أن يستوعبه ويواكبه.
3. إن ما رشح من تصريحات ومواقف خليجية خلال جولة وزير الخارجية الإيراني تؤكد على أن أربع من دول مجلس التعاون الست تريد وتدعم التغيير في العلاقة مع إيران نحو إقامة الشراكة الاستراتيجية في الاقتصاد والسياسة.
بل أن الدور الذي قامت به سلطنة عمان في ترتيب اللقاء بين الولايات المتحدة وإيران ليدل على العلاقة الحميمة التي تتمتع بها عمان لدى إيران.
كما أن مبادرة وزير خارجية الإمارات لزيارة إيران وإعلانه من هناك على إقامة الشراكة الاستراتيجية معها رغم وجود الخلاف على الجزر الثلاث لدليل على أن لدى الإمارات نظرة بعيدة لإقامة العلاقات وحل مشاكلها مع إيران ربما تتخطى منظومة مجلس التعاون.
فإذا أضفنا لذلك ما بدر من مواقف مشابهة من الكويت وقطر، وإعلان وزير الخارجية العماني أن هناك خلافات كثيرة بين دول مجلس التعاون، وتلميحه أن بعضها يتعلق بتحول المجلس إلى اتحاد، وهو التحول الذي تعارضه عمان بشدة. وزدنا عليه الخلاف بين السعودية وقطر حول الموقف من التطورات في مصر، والخلاف مع الإمارات وعمان حول قيام الاتحاد النقدي والعملة الخليجية الموحدة والتي تفتقد الشروط الأساسية اللازمة وعلى رأسها قيام السوق الخليجية المشتركة على اعتبار أن الاتحاد النقدي هو آخر مراحل التكامل الاقتصادي والمالي بين دول المجلس.
إن هذه الظواهر والتطورات تجعل من قمة مجلس التعاون هذا العام مختلفة عن القمم الثلاث والثلاثين التي سبقتها، وأن أمامها انتهاج أسلوب جديد ومغاير للتعامل مع الأحداث التي شهدتها الساحتين الإقليمية والدولية مؤخراً، وعليها كذلك أن تعيد تقييم العلاقات بين دول المجلس الست، وتقييم الدور الإقليمي الذي يقوم به المجلس، وصلاحية وحجم دور شعوب دول المجلس في اتخاذ القرار.
إنه لا يبدو في الأفق ما يشير أن هناك اتفاقاً على التحول نحو الاتحاد، وأن التلميحات الصادرة من الأمريكان والتهديدات الصادرة من عمان تدفع باتجاه انتهاء دور مجلس التعاون بمنظومته الحالية، وأهمية البحث عن أسلوب جديد للتعاون بين دوله من ناحية ودول الإقليم والحلفاء من ناحية أخرى.
وبعبارة أخرى أن قمة مجلس التعاون أمامها اليوم تحدٍ يدفع بها نحو المبادرة بالتغير أو القبول بالتغيير.