حين طلبت مني موظفة العلاقات العامة في القاعدة البحرية الأمريكية عام 1982م تعبئة نموذج أذكر فيه المكان الذي أود زيارته على حسابهم في إجازتي كجزء من الزيارات المقررة لمعالم البلد المضيف ولرفع معنوياتي بعيداً عن الوطن؛ لم أتردد في كتابة سد هوفر «Hoover dam» على نهر كولورادو بين نيفادا وأريزونا. تعجبت الفتاة القروية القادمة من الغرب الأوسط عن جدوى قيادة السيارة 600 كلم ذهاباً وإياباً لزيارة سد فوق نهر! زيارة لم تكن دوافعها عصية الفهم على رئيسها، وهو ضابط بحري يتطلب عمله الإلمام بالجغرافيا، حيث تصنع التعجب في البداية ثم وافق حال علمه إن الرحلة تتطلب مرافق من القاعدة والمبيت في مكان يقع على بعد 60 كم غرب السد.
إن الاغتيال المعنوي للثورة السورية يتمثل بالجلوس مع أزلام نظام الأسد على طاولة مفاوضات؛ تلك قناعة لم يكن أحد يتردد في الموافقة عليها بعد جنيف 1. لكن الكثير قد تغير لصالح الأسد ودفع تشظي المقاومة بالعديد من القوى الإقليمية والدولية لتغيير قناعاتها، ومن ضمنها دول الخليج العربي التي أرسلت الأمم المتحدة الدعوة لخمس منها لحضور مؤتمر 22 يناير 2014م لإنهاء الصراع في سوريا، بجانب 30 دولة بينها الدول الخمس الدائمة العضوية و3 منظمات إقليمية، وبسؤال ينتهي بأربع علامات تعجب نقول؛ لماذا يذهب الخليجيون إلى جنيف؟!
- لم تتقرب العواصم الخليجية للقضية السورية من آخر الصفوف، فهل كانت بحاجة للحث من كاثرين آشتون، المفوضة العليا للاتحاد الأوروبي لشؤون السياسة الخارجية والأمن، لتشارك بالمؤتمر؛ أم أن كاثي تود أن تكرر مشهد احتضانها لجون كيري بعد نجاح اختراق الملف النووي الإيراني لتحقق نجاحاً هشاً آخر، حيث لم تجد إلا استنهاضنا بنخوة (أوقد النار يا شبابها!)، لا شك أن نظرة الغرب لدول الخليج كشركاء لهم مصالحهم في القضية السورية أمر نحرص عليه، لكن الانتقال من هامش القضية إلى مركزها بعد إخفاقات الحل العسكري الذي تمنيناه يجعل حرصهم على مشاركتنا كنوع من إعطاء الشرعية لأمر مشكوك فيه!
- يجب أن يرى الحوار كعملية وإجراء أكثر مما يرى كحدث وفعالية؛ وما يقلقنا هو تشديد كيري مؤخراً على إنهاء الأزمة من خلال «العمل الدبلوماسي الجاد» واستبعاد القوة، ولو تلميحاً لرحيل النظام والأسد من مستقبل المشهد السوري، وكأن كيري يرقص على إيقاع لحن يترنم به سيرغي لافروف وجملته الموسيقية بأن الغرب بدأ يفهم ضرورة بقاء الأسد لمواجهة المتطرفين!
- حول الأسد سابقاً غضب المجتمع الدولي عليه إلى غضب على براميل أسلحته الكيماوية، وتظهر المؤشرات أن مناوراته في المؤتمر ستقود لإعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب، ودعم القضاء على «المجموعات التكفيرية» بدل إعطاء أمر إبادته لشعبه الأولوية التي تستحقها!
- كما سوق الأسد شعار «مؤتمر من دون شروط مسبقة» وقد ساندته في ذلك طهران، التي يعد حضورها مخالفاً لمبادئ التفاوض لرفضها تأييد بيان «جنيف 1»، الذي هو الجذر الأول لهذا المؤتمر. وساندته موسكو في المطلب نفسه. أما الشروط التي لا يريدها الأسد فأهمها وقف إطلاق النار. فكيف يشارك في المسار السياسي وهو مازال ينتهج المسار العسكري!
يرغب الجميع في حضور مؤتمر 22 يناير 2014م لإنهاء الصراع في سوريا، وكل له غايته، فموسكو تعتقد أنها ضمنت مكاناً في المنطقة من خلال الحرب في سوريا، وطهران تستثمر صلحها النووي مع الغرب، وواشنطن تريد أن تبقى الموجهة للأحداث دون أن تملك هي أو شركاؤها الأوروبيون الرؤية أو العزيمة لذلك. فما الغاية الخليجية من الحضور إذا كان دعمنا المتفرق للمسلحين قد فرقهم وجعل بينهم ما صنع الحداد! وكيف سنجعل الثمن غالياً على موسكو لموقفها المضاد لموقفنا وكيف سنغريها بالبدائل ونحن لم نقنع حلفاءنا الغربيين بمشروعنا السوري!
ولتكتمل المفارقات نضيف علامة تعجب خامسة؛ لماذا يقول الخليجيون إنهم ذاهبون لجنيف، ومؤتمر إنهاء الصراع في سوريا لن يعقد أصلاً في جنيف، بل في بلدة مونترو «Montreux» السويسرية التي تبعد 60 كلم شمال شرق جنيف! فهل يعرف الخليجيون ما غاية حضورهم للمؤتمر! لاشك أن لكل غايته، فقد ذهبت لسد هوفر لأبيت على بعد 60 كلم منه في لاس فيغاس!