تابعنا في الواقع حديثاً مثيراً يقع لأول مرة في القرن الواحد والعشرين؛ وهو تعطل الحكومة الأمريكية الفيدرالية بسبب تأخر إقرار الميزانية، الأمر الذي يعد من تبعات أزمة الدين التي تمر بها الولايات المتحدة، وصرح على الفور ديفد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني أن ذلك يشكل «خطراً على الاقتصاد العالمي الهش»، وهنا يحق لنا القول إن «النظام العالمي يدق ناقوس الخطر».
وهنا أيضاً لسنا بصدد مناقشة الأسباب أو المستفيد أو من يقف وراء هذه الأزمة، على الرغم من أهمية هذه الأسئلة الملحة، ولكن أما وأن الأمر قد وقع، ما يهمنا ما هو تأثير هذه الأزمة الأمريكية على الواقع الخليجي وميزان القوى في المنطقة، فهذا الأمر ليس بالهين على الساحة الدولية.
رغم كل ما يجري من خلافات مؤخراً على السياسة الأمريكية داخل الخليج، إلا أنها تظل الغطاء العسكري في مواجهة المحور الآخر الذي تمثله إيران ومن خلفها روسيا والصين، ويحق لدول الخليج أن «تقلق» إذا أمسى هذا العملاق الذي تحتمي به من مخاطر محيطة «يعرج».
أوباما أخرج جيوبه للعالم وقال إني مفلس، والرسالة هذه موجهة بشكل رئيس إلى دول الخليج وليس لأحد آخر، يقول فيها إن الولايات المتحدة تعاني «أزمة حقيقية» الأمر الذي يقلل من قدراتها، ويحد من إمكاناتها، ويبطئ تحركاتها. وهذا القلق ينتقل تكنيكياً لجميع العملات، الأنظمة المرتبطة بالدولار، حيث تعد امتداداً للأزمة.
إن تخلخل القدرة الأمريكية ودخولها غرفة الفحص الطبي يؤثر بشكل مباشر على الكيان الخليجي، ويجعل الجبهة الدولية مكشوفة نوعاً ما، ويزيد من تربص الطامعين التقليديين، وهنا، قد تضطر دول الخليج لدفع تكلفة العلاج لأوباما، وخاصة وأن علاج أوباما الذي أطلق عليه (Opama Care) لعلاج الأزمة لم يعد نافعاً على ما يبدو.
ولكن كم ستكون هذه التكلفة وكيف ستكون طريقة الدفع وما هي شروطها؟ وإذا أردنا التكلم بمزيد من الصراحة؛ إن أصحاب القرار الخليجي والشعوب الخليجية أيضاً في مرحلة ضجر واستياء من الوضع غير المستقر بسبب الطمع الإيراني اليومي الذي يسيل لعابه يومياً من لسان مسؤوليه.
في ذات الوقت، تسعى الولايات المتحدة بشتى الطرق غير المباشرة إلى زعزعة الكيانات الخليجية من الداخل، لإدخالها في مرحلة الخوف وعدم الثقة والاستقرار، وذلك تمهيداً لتطويعها لاتخاذ قرارات مصيرية كبيرة على ما يبدو.
أما بالطريقة المباشرة، فهذا التقارب الإيراني الأمريكي الغريب ما هو إلا «تقارب مصالح ضد الخليج» يريد أوباما من خلاله أن يدفع دول الخليج للتنازل عن بعض الأمور وإمساك معطفه من الخلف لتقول له تعال لا تذهب.
إنه ليس هناك تفسير للسياسة الأمريكية المتناقضة مع الخليج إلا تفسيراً واحداً، وهو ابتزازها للوصول إلى شيء ما، وهذا الشيء قد يكون (كبيراً جداً) يراد منه تغيير صورة المنطقة ورسم «شرق أوسط جديد».
من هنا أيضاً، تبرز الإجابة على السؤال الملح الآخر؛ لماذا لم يحسم الوضع السوري حتى الآن؟ أعتقد أن الإجابة تنبثق مما طرح في هذا التحليل من سياسة أمريكية لها توجه نحو هذا الهدف الذي نتحدث عنه، خاصة أن العملاق الأمريكي أصبحت رجله ثقيلة جداً وتراجع سريعاً عن الضربة بمخرج نزع الأسلحة الكيماوية.
إذا كانت بلداننا هي ساحة القتال السياسي الذي يدور حالياً بين الأقطاب، فسوريا هي ساحة القتال الحقيقية التي ستحدد وجه المنطقة، لذلك لم تجد القوى الكبرى مخرجاً حتى الآن غير المحافظة على هذا التوازن (المضر بمصلحة الخليج).
إن ذهاب أوباما للكونغرس لأخذ الموافقة على الضربة العسكرية رغم عدم حاجته له، رسالة للخارج يقول فيها إنني محاسب أمام ممثلي الشعب الذين يريدون إنقاذ اقتصاد البلد المتدهور، وأن أمريكا لم تعد تمتلك -كالسابق- سرعة قرار الضربات العسكرية، وكلما ضعفت قوة الولايات المتحدة ضعف وضعكم يا دول الخليج النفطية.
إن الاستقرار الخليجي يمر بمراحل سيئة بسبب الظروف المحيطة بعد الثورات العربية ومع استمرار الثورة السورية ومع تعاظم الأطماع الإيرانية ومع نشاط العملاء الإيرانيين بشكل سافر وقلب ظهر المجن من الولايات المتحدة على البحرين لابتزاز الخليج، ونشاط المنظمات الحقوقية «الرسمية» و«الأهلية» ضد المصالح الخليجية.
أخشى أن يكون هنري كسنجر قد كبر ولم تعد تؤخذ (جميع) تحليلاته على محمل الجد، حينما قال العام الماضي «إن الولايات المتحدة تقوم بإطفاء الصين وروسيا، والمسمار الأخير في النعش سوف يكون إيران، التي تشكل، بطبيعة الحال، الهدف الرئيس لإسرائيل».