عندما أتحدث عن «عبقرية الإبداع»، فلا مناص من أن تكون الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، على قمة هرمها، وإنما هي كلمة حق تُقال فيمن استنهضت معالم وآثار من مملكة البحرين، وبثت فيها الحياة من جديد، لتصرخ المملكة في صمت مهيب؛ «أنا هنا.. تاريخ وحضارة».
مشروع باب البحرين، وطريق اللؤلؤ، والمكتبة الخليفية، ومتحف قلعة البحرين، وغيرها كثير، شواهد بارزة على عمل دؤوب وفكر مستنير، وعبقرية مبدعة، تحظى بها البحرين في شخص سعادة الوزيرة. كثير من الأنشطة والفعاليات والمهرجانات السنوية تستحق التصفيق بحرارة، وجديرة بوقفة احترام لصانعيها ومنضميها؛ «تاء الشباب» مثالاً شاخصاً لبرنامج شبابي أشبه ما يكون بالعمل المؤسساتي من حيث الدقة والتنظيم بما يشمله من انتقاء واعٍ لموضوعات ومواد البرامج. «مهرجان التراث السنوي» مثال آخر لمحاكاة تاريخ الأجداد، ما يمكّن من تلاقح ثقافي نادر ما بين التاريخ والحضارة، وما بين الأجداد والأحفاد. «معرض البحرين الدولي للكتاب» مناسبة سنوية يستعد لها المثقفون والباحثون والمتخصصون وكذلك عشاق القراءة على اختلاف مستوياتهم وتوجهاتهم وميولهم، ويترقبونها بشغف، ويتزودون منها بما يكفي من الكتب لملء وقت عامٍ كامل من القراءة الدؤوبة، وهو ما أسميه «بالاستثمار الثقافي».
مبادرات وبرامج ومهرجانات كما سبق، تدعونا للفخر بوزيرة مثل الشيخة مي، ولكن قيل في الأثر «من لا يعمل لا يُنتقد»، والشيخة ميّ بقدر ما عملت حتماً سيوجه لها النقد، ولعل بعضه بنّاء، ولا ضير من أن يسهم آخرون في وضع بضع لبنات من ذلك البناء، أو إضافة بعض الزهور لباقة ثقافية زاخرة تحظى بها البحرين تفرداً، ولا ضير كذلك من إعادة تنسيق الباقة على الشاكلة التي يفهمها المجتمع وتتناسب معه، لكي تصل الرسالة واضحة وبسلاسة لا متناهية، وذلك من أجل تحقيق هدف الوزارة الأسمى؛ وهو نشر الثقافة.
لعل من الملاحظ في البحرين، وهو ما تردد كذلك على مسامعي من بعض النخب الثقافية، تكرار الوجوه والأسماء في حضور الفعاليات الثقافية بشكل لافت، حتى يكاد يكون جمع الحضور كالأصدقاء أو الزملاء في القاعات الدراسية، بلا زيادة أو نقصان إلاَّ فيما ندر؛ وهو ما يدعو للتساؤل؛ رغم كل تلك الأنشطة والفعاليات الثقافية، أما زلنا لا نملك برامج جاذبة؟ أما زلنا لا نمتلك أدوات استقطاب شرائح أكبر من المجتمع إلى الميادين الثقافية؟!
يميل العقل الجمعي البحريني، بما اكتسبه من موروثات خاصة وأخرى تشركه بموروثات المنطقة، إلى التعرض لما يحاكي تجربته، ويلامس هويته، ويداعب عقله ومخيلته بجديد يتسق مع مكتسباته وثوابته، ولعل هذا ما يفسر انحسار المشاركة في الأنشطة والبرامج الثقافية أو الهجوم الشعبي عليها، نحو الأمسيات الموسيقية على اختلاف ثقافاتها، والغناء الأوبرالي، والمسارح التي قد لا تتسق جميعها مع منظومة المجتمع الثقافية والعقائدية، ومن ذلك بعض ما احتوت عليه أنشطة مهرجان البحرين الدولي للموسيقى، ومهرجان ربيع الثقافة وما شاكلهما.
المجتمع البحريني بثقافته ومكتسباته لا يرفض المسرح، ولا يرفض بعض الغناء، ولربما الموسيقى كذلك، غير أنه يتطلع لمزيد من الانتقائية بما يتوافق مع مجمل ثقافته واختيار الأصلح له من بين الثقافات العالمية. كم هو جميل الانفتاح على ثقافات العالم، بقدر ما هو مؤسف ذلك الانصياع للغزو الثقافي العالمي باسم التمدن والتطور والاطلاع. كم هو جميل استقطاب ما يتناسب مع عادات وتقاليد المجتمع من ثقافات، وتكييف بعضها بما يتناسب مع مكتسباته وعقائده، بدلاً من إقحام الثقافات كلها دفعة واحدة، ما يخلق موجة غضب شعبية تتكرر كل حين، ومع الإعلان عن كل فعالية يتوقع منها المجتمع ما لا يتوقعه.
ثم أننا لماذا نمارس دائماً دور المتلقي الحاضر بقوة، والمرسل الضعيف المتواري خلف الستار؟ لمَ لا نقوم بإنتاج أعمال ثقافية نصدّرها للخارج؟ لمَ لا نستوحي من حضارات البحرين المختلفة أعمالاً فنية وثقافية كالمسرحيات والأفلام الوثائقية والغناء والأدب نقدمها في دور الثقافة العالمية ومراكزها، ونشارك بها في المحافل الكبرى والمسابقات الدولية؟ ليتعرف العالم على ثقافاتنا.
نبضة سياسي
دعونا لا ننسى أن الرصيد الثقافي والتاريخي لأي بلد في العالم، بمثابة سلاح يهابه الأعداء ويحسبون له ألف حساب، وأن واحداً من أهم العناصر التي تحقق قوة الشعوب والأنظمة، حجم ما توليه تاريخها وحضارتها من اعتزاز وفخر، وبقدر ما تُصدِّر منهما للحضارات والأمم الأخرى. فإلى متى سنقدس تاريخهم وحضاراتهم ولنا في تاريخنا وحضاراتنا أمجاد عريقة.. لو تمنعنا فيها فقط وتفحصناها بعناية.
نبضة محب..
إنما هي نبضة محب للوطن، بكل ما يزخر به من ثقافات حضاراته عبر التاريخ، يتطلع لأن يرى رموز بلاده الثقافية متداولة ومضرب مثل عالمي، يتمنى أن يجد لثقافته الزاخرة موطئ قدم في عالم عرف جيداً كيف يسوق لحضاراته، حتى أخجل البعض من حضارتهم وتاريخهم وصوّرها لهم على أنها «لا شيء» للأسف الشديد.
نبضة قلِق..
يملأني القلق على مستقبل الثقافة في البحرين، عندما يُمنع بعض المقبلين عليها من قبل ذويهم والمحيطين بهم عن الانخراط في ميادينها، بدعوى أن تلك الثقافة لا تمثلنا، وأن الثقافة انحراف وفسق وفجور. ولا ألومهم.. فقد قولب بعض رعاة الثقافة في وطني معنى «الثقافة»، وأخرجه بصورة نمطية ربما أساءت له بقدر ما أحسنت إليه.