ليس تأسيساً للحظات تحريضية ضد حليفتنا واشنطن؛ لكن ما يلفت النظر في المؤتمرات والندوات، وحتى الديوانيات، سرعة تقديم الدبلوماسيين الأمريكان لكروتهم الشخصية لمن يتحدثون معه. وليس المستهدف الحصول على كرتي أو من هم مثلي، فما يقومون به هو تكتيك للتجاسر على كرت غيري من الرجال المهمين في ذلك المكان، حتى ولو لم يشاركوا في الحديث.
ودون شك تجد أحاديث المهمين -حادة الزوايا- طريقها لواشنطن كما ظهر في «ويكيليكس»، أما أرقام الهواتف في كروتهم الشخصية فتستخدم للدعوة للحفلات الدبلوماسية أو ديوانية السفير أو لندوات ومؤتمرات، لكن الجديد في الأمر هو ما كشفته وثيقة حصلت عليها صحيفة «الغارديان» البريطانية وفيها تقوم وكالة الأمن القومي بدفع الدبلوماسيين والمسؤولين الأمريكيين لتقديم أرقام تلفونات الرجال الفاعلين حول العالم التي حصلوا عليها، وتفريغها في قاعدة بيانات ضخمة حتى يتم التصنت عليهم وقت الحاجة.
ولا يحتاج الأمر لمدارك ذهنية عالية لنعرف أن العم سام يتجسس على دول الخليج، فقد أثبتت تسريبات آسانغ/سنودن ذلك، وما دمنا ضمن أهداف التجسس الأمريكية فلماذا الصمت الخليجي؟ وكيف نستطيع استثمار الهفوة الأمريكية؟ مع أن من مكونات المشهد الاستخباري الراهن ما يلي:
- الخريطة المتوحشة للسياسة الخارجية الأمريكية في وجه أوباما رغم الوداعة الظاهرة عليه، تقول إنه قد سلم رسمها لأيدي أصحاب المنهج التجريبي كجزء من البراغماتية أو المصلحية المتقلبة بين مرحلة سياسية وأخرى، والقول بأبدية العلاقات الأمريكية الخليجية يدخل في باب التبسيطية الفضة.
- من سخريات الأمور أننا لو اتهمنا واشنطن بالتجسس علينا فنسبة الخطأ متدنية في ذلك، والأدلة كثيرة كمعرفتهم بوصول صواريخ رياح الشرق للرياض وستنغر للدوحة، وتحركات الفرنسيين في الإمارات وغيرها من الشواهد الكثيرة.
- لن يستثني التجسس الأمريكي دول الخليج، فقد صمم برنامج القانون الوطني «Patriot act» لتوسيع عمل الاستخبارات في مكافحة الإرهاب بعد 11 سبتمبر، ونحن لا زلنا في نظر الكونجرس حواضن للإرهاب.
- يمكن حصر التجسس الأمريكي على دول الخليج في أقسام؛ التهديدات ضد الاقتصاد الأمريكي عبر أسعار النفط وكميات الإنتاج، أهداف السياسة الخارجية وتقرب دول الخليج من روسيا والصين ثم عداء إسرائيل، مجالات حقوق الإنسان لاستثمارها ضد الخليجيين، وأخيراً التجسس على قادة دول المجلس وهو أضعف الأنشطة.
- صرح مدير الاستخبارات القومية جيمس كلابر أن معرفة نوايا القادة هو مبدأ أساسي في ما يتم جمعه وتحليله؛ إلا أنه في تقديرنا أن التجسس الأمريكي قد لا يكون على قادة الخليج مباشرة، كما حدث مع المستشارة الألمانية، فالوصول للحكم في الأنظمة الخليجية الوراثية مستقر وشبه محسوم ولا يحمل مفاجآت الأنظمة الحزبية نفسها، والتي تتطلب معرفة نوايا كل سياسي قادم، إضافة إلى أن الاستثمار في فضائح القادة خاسر لطبيعة المجتمعات الخليجية المحافظة، وصرامة فضيلة الرشد التي تحكم وصول الزعيم لسدة الحكم.
وعليه تحتاج دول الخليج لرجال بمواصفات عمل لا توضع على ورق، فبعد أن استخدمت واشنطن العمل الاستخباري وأساءت استخدامه، يصبح لزاماً على صانع القرار الخليجي استثمار ذلك بخطوات قد يكون من ضمنها:
- رفع درجة الغضب الخليجي على التجسس الأمريكي إلى مستوى الأزمة، وجعله ملف ضغط نستخدمه كما تستخدم ضدنا ملفي الإرهاب، وحقوق الإنسان، وحتى ملف منع دخول الشواذ لدول مجلس التعاون.
- ستجبر فضائح التجسس واشنطن على تخفيف نشاطها الاستخباري إلى حين، وقد يكون من العسير التحكم بما ينشره آسانغ/سنودن من تقارير حول دول الخليج، لكن بالإمكان استغلال التجسس وتوقيع اتفاقية عدم تجسس أسوة بدول أوروبية أو التهديد بغلق نافذة تبادل المعلومات الاستخبارية Intel-sharing، والتي تستميت واشنطن لاستمرارها لمحاربة الإرهاب.
ولأنه من المستحيل على الأمريكان مراقبة جميع الخطوط في الخليج دون التواطؤ والدعم المحلي، ولأن التصنت لم يعد بحاجة إلى اختراع جديد أو جيمس بوند، بل صار بالإمكان أن يعهد به إلى فني صغير بأي شركة اتصالات، حيث إن المطلوب صار لا يتعدى رقم هاتف أو «BBM» للبلاك بيري أو بريد إلكتروني، من أجل ذلك كله نجد أن دول الخليج مجبرة على أن تعيد إنتاج مشروعها لمكافحة التجسس بالكامل.