نكاد نتفق على أهمية التخطيط الاستراتيجي في البحرين ودول المنطقة باعتباره محوراُ رئيساً في صناعة القرار، كما نتفق على أن القرارات الاعتباطية غير المدروسة أصبحت في علم الإدارة الحديث أو في القيادة لا تضاهي العربة ذات السوط التي تجرها «الدواب». ولعل البحث العلمي واحد من أهم الروافد الناجعة لتلك الخطط الاستراتيجية وقرارات الدولة، ولنا في أعدائنا أسوة حسنة؛ أولئك الذين حوّلوا أمجادنا لإرث لن يعيده التاريخ، وقد أعنّاهم على ذلك بسذاجة عربية مكتسبة. وبعيداً عن اللطم على تاريخ مشرّف لأجيال آخذة في الانحدار إلى الحضيض، والحديث عن المظلومية التي اقتدنا أنفسنا إليها بما كسبت أيدينا، فإن الفرص أمامنا سانحة للاستفادة من أولئك الأعداء؛ علّ الدوائر تدور والأمجاد تعود – ولو جزئياً.
لعب البحث العلمي في «إسرائيل» وأمريكا والاتحاد الأوروبي وغيرهم كثير، دوراً فاعلاً في صناعة القرار السياسي، ولعل تجربة «إسرائيل» وسيرتها العلمية واحدة من أكثر النماذج الجديرة بالتتبع، لما يتمخض عنها من دروس عديدة، إذا ما أحسنا فهم التجربة والاستنارة بها. فـ»إسرائيل» وحدها تنتج شهرياً أكثر من أربعين بحثاً معترفاً به دولياً، ويعود ذلك لحجم التمويل الذي تضخه في ميدان البحث العلمي، فضلاً عن ذلك السباق مع الزمن والذي تختصر من خلاله المسافة ما بين طلب الحصول على منحة بحثية والحصول عليها. ناهيك عن البعثات والمنح الدراسية التي تقدمها «إسرائيل» وكثير من الدول الأخرى بمستويات متفاوتة لا تقارن، طبعاً.!!
إن كل تلك الأولوية التي تمنحها «إسرائيل» للبحث العلمي إنما من أجل التزود بالمعلومات والوقائع والتحليلات والرؤى بما يمكنها من صياغة السياسة «الإسرائيلية» وخططها الاستراتيجية. وقد أصبحت الدول المتقدمة في سباق علمي محموم تبذل من أجله قصارى جهدها، رغبة في الوصول إلى أقصى ما يمكن معرفته واكتشافه، إيماناً منها بأن البحث العلمي «أكسير حياة الدول» والمؤسسات.
ولعل من المعيب أن تتنبه الشركات الكبرى -حتى في العالم العربي- لأهمية البحث العلمي، بما يخدم مجال تخصصها وتسويق خدماتها، فيما تتغاضى دول عن أهمية البحوث وما يتأتى من خلالها من معلومات وإيضاحات، من شأنها التأثير في صناعة القرار بشكل مختلف وسليم. فإن كان لا بد للبحرين ودول المنطقة من نهضة، فإن البحث العلمي سيكون هو القائد الأول لها، غير أن البحرين -وكثير من الدول الأخرى- تعاني -وللأسف الشديد- إخفاقاً في إدراك أهمية البحث العلمي وأوجه الاستفادة منه، ويكاد لا يعدو اهتمامها به سوى ضرباً من تشجيع التعليم وأن تترك لها رقماً هامشياً كل عام يمثل حصيلة البحوث العلمية السنوية التي يقدمها باحثو المملكة كمتطلبات لدراساتهم العليا.. من دون جدوى.!! ويكمن الخلل في النظرة العربية للبحث العلمي باعتباره إنجازاً، فيما أن البحث العلمي في حقيقة الأمر إنما هو وسيلة وليس غاية.!!
وباعتقادي.. فإن متى ما تعاملت الدولة مع البحث العلمي كاستثمار، متى ما حققت كل ما تصبو إليه، وكانت قادرة على الثبات أكثر في عالم يجعل منها ريشة في مهب الريح. بل ويمكنها كذلك من تحقيق مستويات متنامية فيما يُعرف بالتنافسية العالمية، وعلى كافة الأصعدة.
بوح النبض..
بعد الحديث عن التجربة «الإسرائيلية» في البحث العلمي «كنموذج»، وحجم اعتمادها عليه في صناعة القرار السياسي، لا أدعّي أني كاتب في الكوميديا السوداء، ولا أحد هواتها حتى، ولكنني فعلاً ترددت كثيراً قبيل تحبير تلك المقالة الصحفية، واستوقفني «مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة»؛ «دراسات»، لأكثر من مرة، وقد جرّني ذلك التردد لمماحكة عقلية كبرى خشية أن أظلم أو أنسف جهد أحد، غير أن حصيلة تلك المماحكة المضنية وفيصلها كانا «قياس الأثر»؛ فالأسماء وحدها لا تصنع الأشياء ولا هويتها، ووجود المخلوق في الكون لا يعني بالضرورة حتمية إنتاجيته.
لا أعنــي بكلماتي هذه مركز «دراسات» علـــى وجه التحديد، وإنما هو مبدأ عام قررت اتخاذه لكي لا تستوقفني الأسماء ذات مرة، ولأمضي قدماً فيما أراه صحيحاً بمنظوري الشخصي. ومن هنا فقط.. أطلقت أعنة قلمي ليزفر حبره بعناية فائقة يفكّ من خلالها شفرة أفكاري وتصوراتي ويحولها حروفاً مقروءة بعد عملية تنقيح عصيبة يقاسيها كل مرّة؛ ضماناً لسلامة الجرّة.
وأيضاً.. للحديث بقية