حين نزح الفلسطينيون إلى سورية، بعد نكبة 1948، فعوملوا فيها أفضل مما عوملوا في أي بلد عربي آخر، لم يكن حزب البعث يحكم سورية. والأمر نفسه حين أقيم مخيم اليرموك في 1957. بطبيعة الحال كانت القومية العربية الرطانةَ الإيديولوجية التي تسود سورية والسوريين، وربما وفقاً لها اختير اسم المخيم الفلسطيني الأكبر تيمناً بالمعركة التي حملت الإسلام والمسلمين من شبه جزيرة العرب إلى بلاد الشام ثم عربت الأخيرة.
أغلب الظن أن حزب البعث ما كان ليفعل شيئاً آخر يختلف عما فعلته الأنظمة السابقة عليه في ما خص استقبال اللاجئين الفلسطينيين وإقامة المخيم وتسميته. فهو إنما نشأ على الرابطة العروبية، بل جعل منها علة وجوده. فوق هذا، لم يكن «تحرير فلسطين» غريباً عن ترسانته الإيديولوجية الطالعة من القصائد.
ما اختص به البعث الحاكم، على أية حال، هو إحداث انقلاب في الوظائف المسماة قومية: فبدل أن تقاتل الدولة السورية، وكل دولة عربية، لتحرير فلسطين، على ما تقول المقدمات النظرية والتعبوية للحزب، بات الفلسطينيون مدعوين للقتال خدمة للدولة السورية كما يبنيها البعث ويحتكرها. هكذا، وفي وقت مبكر، أسس الأخير منظمة «الصاعقة» التي تأتمر بأمره، كما امتلك اليد الطولى في منظمات فلسطينية الاسم كـ «الجبهة الشعبية – القيادة العامة» و»جيش التحرير الفلسطيني»، قبل أن يشق حركة «فتح» ويقدم «فتح الانتفاضة» بديلاً لها.
في موازاة ذلك، وكسيرورةٍ طبيعية لا مهرب منها، بدأ فلسطينيو سورية يتسورنون، متأثرين بالظروف العريضة التي يعيشون في كنفها. ولئن سهل هذه المهمةَ أنهم يحظون في سورية بمعاملة أفضل من معاملتهم في أي بلد عربي آخر، ففي اليرموك تحديداً، عمل القرب من دمشق وإقامة سوريين بينهم على تسريع عملية السورنة تلك.
لكنْ ماذا تعني السورنة في زمن البعث، حيث يعاد تأسيس «الشعب» مللاً ونحلاً ومذاهب فيما تتأبد السلطة استبداداً ثقيل الوطأة على الجميع؟
لقد نم وزير الخارجية السوري وليد المعلم عن الصراحة المطلوبة حين تحدث في وقت مبكر عن «إساءة» الفلسطينيين لـ «الضيافة» التي حظوا بها. بهذه الرطانة ألغى الرطانة القومية والفلسطينية التي دفع الفلسطينيون، ويدفعون، أكثر أكلافها. فالنظام لم يعد قادراً على تشغيلهم «قومياً» لمصلحته، لأنهم تسورنوا، أي اكتسبوا وعياً محدداً هو وعي المكان الوطني الذي يقيمون فيه. وفي الوعي هذا، وكما بتنا نعلم جيداً، تتجاور مستويات كثيرة فيها الوطني والديني والمذهبي، ولكنْ فيها أيضاً طلب التخلص من الاستبداد.
في هذا المعنى، فإن الفلسطينيين حين يستحيل تشغيلهم «قومياً»، يهبطون من كونهم «قضية مقدسة» ليغدوا أرقاماً تسيء الضيافة ويترصدها العقاب الذي يصل إلى القتل والتجويع. وهذا تمرين سبق أن رأيناه في لبنان، من تل الزعتر إلى «حرب المخيمات»، وكان الفلسطينيون قد تلبننوا أيضاً، أي تأثروا بالمستويات المتضاربة للوطنية اللبنانية وكف إمكان تشغيلهم «قومياً».
بيد أن اللافت هنا أن خوض النظام السوري المعركة «القومية» راهناً، وأهم بنودها محاربة المشروع الإسرائيلي، كما يقول، لم يحل دون مفارقة مدهشة: أن الفلسطينيين، وهم أصحاب «القضية» المباشرون، غدوا أرقاماً سالبة بقياس الأرقام الموجبة للبنانيين والعراقيين الذين يقاتلون مع النظام في سورية.
هؤلاء الأخيرون لا يزالون قابلين للتشغيل «قومياً». أما أولئك العشرون ألفاً في اليرموك فلهم أكل القطط والكلاب، وهطول البراميل المتفجرة، فيما ينتظرهم، بدل الموت الواحد، موتان؛ مرة لأنهم فلسطينيون يرفضون تشغيلهم «القومي»، ومرة لأنهم سوريون مشمولون بالحقد على السوريين.
- عن جريدة «الحياة»