تشهد البحرين هذه الأيام إقامة ملتقى خليجي للتخطيط الاستراتيجي، وهي بادرة طيبة تقام من قبل جمعيات أهلية وشخصيات بحرينية مخلصة والإيجابي أنها تجمع مشاركين من دول الخليج بين حضور ومتحدثين.
أجزم بأن أطروحات إيجابية وقيمة طرحت في الجلسات النقاشية، وبمرور على أسماء المتحدثين تبرز مجموعة منهم لها باع في عملية «التخطيط الاستراتيجي» بحسب مواقعها العملية والتعريف بها بخلاف آخرين، مع التحفظ عن ذكر أسماء منعاً لأية حساسية أو زعل، بيد أن العملية كلها تكمن في النهاية في معضلة تعاني منها الدول الخليجية وتعاني منها البحرين على وجه الخصوص، وهو ما يتعلق بالنظرية والتطبيق.
أحياناً تمرعلينا مؤتمرات عديدة وملتقيات كثيرة تبرز بعناوين رنانة ذات مضامين تدخل في المثاليات وأفضل طرق الممارسة، لكن التوقف لديها لوهلة والتمعن في الشعار يدفعك للتساؤل بالضرورة، ألا يبدو أن شعاراتنا التي نرفعها هي أساساً المشاكل التي نعاني منها؟!
اليوم حينما نتحدث عن التخطيط الاستراتيجي، نتفق جميعنا على أهمية هذه الممارسة بل حتميتها، بل نتفق جميعاً على المبادئ التي تطرح والأساسيات التي تعرض وأفضل طرق الممارسة، لكن يظل التنظير «تنظيراً» فالواقع يختلف تماماً.
البحرين حاضنة لهذا المؤتمر أو الملتقى، لكن البحرين نفسها تعاني من مشكلة عصيبة معنية بـ «التخطيط الاستراتيجي»، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقدم نفسها على أنها نموذج ناجح لعمليات التخطيط الاستراتيجي والشواهد كثيرة.
حينما نقول بأن التخطيط الاستراتيجي ممارسة متأصلة في قطاعات الدولة، فإن المسألة لا تنحصر في الكلام الصادر أو المكتوب على الورق، بل مرهونة بنتاج هذه العمليات التي يفترض أن تكون لها أدوات قياس.
مثلاً، البحرين لديها عجز اكتواري خطير يصل شبح تهديد للمواطنين أنفسهم، وبسببه تتعطل كثير من المشاريع المعنية بهم، مثل زيادة الرواتب وغيرها، والذريعة بوجود هذا العجز. هذه الحالة تكشف تماماً انعدام التخطيط الاستراتيجي بالنسبة لموازنات الدولة واحتياطي الأجيال والمصروفات والمشاريع ذات الأولوية وكثير من الأمور!
حينما ندخل العام 2014 ونحن مازلنا نعاني من أزمة سكن في البحرين، فإننا أمام مشكلة متعاقبة زمنياً بالنسبة للجهة المعنية بالإسكان، وهو ما يعني عدم وجود تخطيط، بل الاعتماد على حلول وقتية وآنية بسبب الضغوط. يعلن عن مشروع بيوت ذكية ثم بعد فترة يلغى! يعلن عن إلغاء بعض الاشتراطات فلا يتم التنفيذ حرفياً إلا بعد سنوات وكأنه على مضض! تطرح حلول أخرى لكنها أيضاً لا تحل أساس المشكلة!
حتى على صعيد الشركات التي تملك الدولة فيها نسباً كبيرة، التخطيط الاستراتيجي غائب تماماً بدليل الخسائر والتي تدفع ميزانية الحكومة ضريبتها. قد يكون هناك تخطيط استراتيجي لبعض المتنفذين في هذه الشركات لكن أيضا تقرير ديوان الرقابة المالية يحتاج لـ»تخطيط استراتيجي محبوك» حتى يتم تفعيل ما فيه من مخالفات من ناحية المحاسبة! تريدون أمثلة؟! ناقلتنا الوطنية التي يبدو أنها قريباً سـ»تغرف» مبلغاً جديداً من موازنة الدولة، بابكو، ألبا، وغيرها من قطاعات، ومن يريد الإثباتات ليفتح تقارير الرقابة.
أما في مسألة التخطيط للمستقبل، فصحيح أن لدينا «رؤية استراتيجية» لكنها رؤية جميلة على الورق، ولإثبات العكس فإن المطلوب من المعنيين بتنفيذها إثبات تحقق ولو أجزاء منها على أرض الواقع، بنسب وأرقام وشواهد، إذ لا يكفي أن أقول بأن وضع البحريني يتغير وأكتبه على ورق لتتحول «الأماني» أو «الطموحات» إلى واقع! ولا يكفي أن أقول بأن الرؤية قائمة على وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ثم ننظر للواقع لنرى تخبطات في التعيينات والمهام ووضع أشخاص غير ذوي كفاءة وحتى مؤهل في أماكن حساسة، بينما الشباب والطاقات بالأخص «غير المحسوبين على لوبيات» يعانون من التهميش!
وبالحديث عن الشباب في البحرين، أين هي عملية التخطيط الاستراتيجي المعنية بالشباب؟! مؤسسة الشباب والرياضة تقوم بدور ملحوظ ويشكر القائمون عليها، لكن الحاجة أكبر من مجرد دمج الشباب في مشاريع وبرامج، الحاجة ماسة لدمج الشباب في مواقع العمل وصناعة القرار وإعداد قادة مستقبل «فعليين» داخل واقع العمل الملموس لا «العالم الافتراضي»!
البحرين بحاجة لهيئة عليا تتبع مباشرة لجلالة الملك حفظه الله وتعنى بالتخطيط الاستراتيجي الشامل لكل شيء، تضم خبراء على أعلى مستوى، خبراء مؤهلين من الكفاءات الوطنية «بسنا أجانب»، تضطلع بمراجعة كل العمليات وتقيم الخطط وتصحح مسارات العمل. هذا تحد أمام الدولة أراه سيمنحها قوة لأن تخطو خطوات جبارة في اتجاه التطوير والإصلاح والتصحيح.
ختاماً، الشكر موصول للقائمين على الملتقى الخليجي الثاني للتخطيط الاستراتيجي بالأخص الدكتور فهد الشهابي أمين عام الملتقى والدكتورة هالة صليبيخ رئيس الجمعية البحرينية للتخطيط الاستراتيجي والفرق العاملة معهما على إقامة هذا الملتقى، بأمل أن تنتج عنه استفادة عبر استخلاص مقاصد الأدبيات وتحويلها لواقع عملي يطبق هنا في البحرين.
مثل هذه الملتقيات ليس المهم فيها تصفيق الكم الهائل من الحضور على رأسهم المسؤولون وصناع القرار، بل المهم ما سيأخذه المسؤولون معهم منها حينما يغادرون القاعة.