«أعلنها على الملأ.. وعبر هذا المنبر.. قررت أن أصبح بين ليلة وضحاها من ذوات الدخل العالي والحياة المرفهة، وأن ألج لعالم «اللصوصية الكبرى»، وأن أسرق المال العام بالقانون، أما أنتم فلكم الفقر وبئس المصير، ولا مطالب شعبية بعد اليوم». كانت تلك جملة مسربة من خطبة ألقيتها في المستقبل.. استدعيتها عبر «التنقل في الزمن». أسمعتم بتلك الآلة الخارقة التي تتنقل بنا عبر الأزمان؟! من هنا بدأت الحكاية.
لم أعد أطيق فقري، وقد خضت كثيراً من المغامرات من أجل الارتقاء بدخلي، وبدأت ببعض مشروعات صغيرة على أمل أن تكبر، غير أن وحوش السوق لم تترك لي ثمة مجال. حتى اهتديت لدرب «اللصوصية الكبرى» ورشحت نفسي لعضوية مجلس النواب، لم ولن أفعل لذلك الشعب البائس شيئاً، أما أصواته فليست ذات ثمن يذكر بعد مضي مرحلة التصويت، وقد حظيت بما يستحقه النائب البرلماني من رفاهية مادية، وسحقاً لبرنامجي الانتخابي الغبي ومن صدقه. وها أنا ذا بعد أن أنهيت السنوات الأربع، وحصلت على التقاعد.. أعلنها على الملأ.. أعلن خطابي الذي استدعيته في مستهل الحكاية.. عبر الزمن، تلك هي حكايتي.
يدعو هذا لمزيد من التفكر في البرامج الانتخابية للمرشحين لمجلس النواب، والتأمل بجدية في حجم ما يمكن أن يتحقق منها من قبل صاحبها وفقاً لجميع المعطيات، كما يدعو لتطبيق معادلة منصفة لنسبة الراتب التقاعدي بنسبة ما تحقق في المجلس من قبل النائب، ما يحقق أداءً نوعياً مختلفاً من قبل المتراخين من النواب، يتم ذلك من خلال وضع لجنة تقييم منجزات النائب البرلماني، وقياس حجم ما حققه من برنامجه الانتخابي، ومن ثم تحديد راتبه التقاعدي بالنسبة والتناسب مع حجم تحقيقه لذلك البرنامج. فإننا متى ما اتبعنا هذه المنهجية الجديدة، وعملنا على تخفيض الامتيازات المادية لأعضاء المجلس أو إلغائها فور انتهاء الدور التشريعي، فإنه باعتقادي لن يكون هناك إقبال كبير على المجلس من قبل المواطنين الطامعين، وهو ما يعني فرز وتنقيح المواطن الذي ولج للمجلس خدمة للوطن والمواطن أو خدمةً لجيبه الخاص واستثمار عضويته في البرلمان على حساب الشعب.
لقد طالعتنا وسائل الإعلام بموقف النائب في البرلمان اللبناني بهية الحريري التي أعادت مجموع رواتبها إلى الشعب اللبناني مؤسسةً من خلاله صندوق «بحبك يا لبنان» تحت إشراف رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان، ويقدر مجموع الرواتب التي تقاضتها عن دورة عـــام 2009 وقيمتهـــــا 525.282.500 ليــــرة لبنانية أي ما يعادل 350 ألف دولار. معتبرة أنها تقاضت أجراً لا تستحقه خلال الدورة البرلمانية لعام 2009. فهل يا ترى سيقوم أحد نوابنا في البحرين مثلاً، بإعادة مبلغ ما تقاضاه أجراً في عمله بالمجلس إن أنبأه ضميره بأنه لا يستحقه؟! دعونا لا نلقي باللوم على النواب، فإنه الضمير، وكثير من الضمائر قطعت تذكرة سفر ذهاب بلا عودة، الأمر الخارج عن إرادتهم، كتحقيق برامجهم الانتخابية التي عصفت بها الرياح وخرج الإمساك بها عن إرادتهم هي الأخرى.
لا يستهان بحجم ما تنفقه الدولة في دورة كل أربع سنوات على نوابها طوال فترة شغلهم لكراسي المجلس، وحجم ما تضخه في جيوبهم فور تقاعدهم منها ولمدى الحياة أو ما بعدها، وهو سرقة قانونية للمال العام «لصوصية كبرى» يدفع ثمنها الشعب وحده. ولعل الشعب يستفيد من تلك الحملة العراقية التي أطلقت مؤخراً في هذا الشأن، «حملة إلغاء تقاعد البرلمانيين في العراق»، نظراً للحمل الكبير الذي تتكبده الدولة من جرائه، بالقانون وباسم الوطن.
«الوطنية» ظاهرة صوتية، حققت انتشاراً قل نظيره إبان أزمة البحرين الأخيرة ومازالت، حملت الوطن فوق طاقته من النهب والسلب والتملق والتكسب تحت لواء «خدمة الوطن»، شأنه شأن لواء «خدمة الدين». وويل للأمة إن اجتمع اللواءان في فرد واحد، فلعل التواري خلفهما ضرب من الابتذال، بل أقصاه، وهو ما يحدث كثيراً. ولكن لا يمكننا حتماً التعميم.. فهناك الكثير من أبناء الوطن المخلصين، ونخبة من الثقات من رجال الدين وأهله وخاصته، وباعتقادي فإن كل مسلم هو رجل دين، وكل مسيحي هو رجل دين، ونحوه.. إن تمسك بتعاليم الدين فعلاً، جاهر بها وصعد على المنابر، أو عمل بها قولاً وفعلاً بسرية بينه وبين ربه وانعكست في سلوكه. ولن نقف عند هذا طويلاً، فمحور حديثنا في وادٍ غير هذا الوادي. طالعتنا أخبار متعددة أيضاً، بعودة الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، إلى مهنته السابقة، مهنة التدريس في جامعة «علم وصنعت» في العاصمة طهران. عندما يعود رئيس دولة منتخب لممارسة مهنته السابقة بعد انقضاء مدة رئاسته، ويرقد في فراشه الوثير نائب منتخب متقاعد وبمرتب شهري فاحش قياساً بمستوى رواتب وظائف الدولة، على بضع جعجعات لا تسمن ولا تغني من جوع، وعلى تمنعه عن التصويت لبعض حقوق المواطنين الذين منحوه هذا المرتب بأصواتهم، وعلى أعذار لا حصر لها في محدودية الصلاحيات من تحت قبة البرلمان، وقد ذهبت الوعود والبرامج الانتخابية أدراج الرياح، فكأنه ضرب من السفسطة القائمة على التكسب بالقول وبالحجج صحيحها وفاسدها. فلم لا يعود النائب البرلماني بعد انقضاء فترة تمثيله للدائرة حيثما كان، أو لوظيفة أخرى؟ ما القدسية التي يمنحها النائب لكي لا يعود لوظيفته؟!!
إن الحد الأدنى لسن تقاعد البرلماني في البحرين يمكن أن يكون 34 سنة، متقاعد في عز شبابه، بمرتب شهري فاره.. منعم، وآخرون أفنوا العمر في خدمة الوطن في ذل ومهانة وإخلاص وتفانٍ من أجل مرتب شهري، قد لا يلبي الاحتياجات الأساسية له ولعياله من مأكل وملبس ومسكن، والقصص التي تنشرها الصحف في ذلك كثيرة ولن نتعرض لها البتة لكي لا نزعج نوابنا الأعزاء في استجمامهم اللامنتهي وانغماسهم في ملذاتهم ورفاهيتهم.
أذكــر مما خلفه الأقدمون في الأثر، أن «جــــاء رجل إلى الإمام الشافعي يشكو له ضيق حاله وأخبره أنه يعمل أجيراً بخمسة دراهم وأن أجره لا يكفيه، فما كان من الشافعي إلا أن أمره أن يذهب إلى صاحب العمل ويطالبه بإنقاص أجره إلى 4 دراهم بدلاً من خمسة وامتثل الرجل لأمر الشافعي رغم أنه لم يفهم سببه. وبعد فترة عاد الرجل إلى الشافعي، وقال: لم يتحسن وضعي إنما مازالت المشكلة قائمة فأمره الشافعي بالعودة إلى صاحب العمل وطلب إنقاص أجره إلى 3 دراهم بدل 4 دراهم، ذهب الرجل ونفذ ما طلب منه الإمام الشافعي مندهشاً!!! وبعد فترة عاد الرجل إلى الشافعي وشكره على نصيحته وأخبره أن الثلاثة دراهم أصبحت تغطي كل حوائجه وتفيض بعدها، وسأله عن تفسير هذا الذي حدث معه، فأخبره الإمام الشافعي: أنه كان من البداية يعمل عملاً لا يستحق عليه إلا 3 دراهم، وبالتالي فالدرهمان الباقيان لم يكونا من حقه وقد نزعا البركة عن بقية ماله عندما اختلطا به، وأنشد:
جمع الحرام على الحلال ليكثره
دخل الحرام على الحلال فبعثره
ترى.. أيمكن لنوابنا الأفاضل.. المخلصين للوطن، رجالات الدين من تحت قبة البرلمان.. أن يجتمعوا بحق لا مراء فيه، على كلمة رجل واحد، ليتفقوا رغم أنف عروبتهم، على إلغاء الراتب التقاعدي للنائب، وعودة كلٍ منهم لعمله بعد انتهاء دورته، وأن يخفض مرتبه الشهري خلال فترة نيابته، وأن يتحقق من ذلك الاستفادة من هذه الأموال في تحقيق كثير من المطالبات الشعبية برفع الأجور، ورفع مستوى الخدمات الصحية وتوفير مزيد من الخدمات للمواطنين؟ فإن اتفقوا.. لعل لا شأن لكثير منا بالبرلمان بعد الآن.. وإن لم يتفقوا كالعادة.. فلعل ترشحي للبرلمان قريب.. وأهلاً من الأعماق بمشروع «اللصوصية الكبرى» الجديد.