خرجت الولايات المتحدة كقوة عظمى لأنها كانت أقل الدول الكبرى خسارة في الحرب العالمية الثانية، فهل ستخرج دول الخليج كقوة إقليمية كبرى لأنها أقل الخاسرين في الربيع العربي؟ بمرور سريع يقترب من الخواطر، ويقل عن مستوى الدراسة العميقة، سنتتبع تحولات السياسة الخارجية الخليجية بين مدرستين قادت الخليج الذي كان جزءاً من الحروب العربية غير المنتهية وجزءاً من الثورات غير المنتهية.
تحت الحماية البريطانية عاشت دول الخليج في عزلة مريحة من أنواء السياسة العالمية، فقط الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية كانت مستقلة، وكانت عنصراً فاعلاً كعضو مؤسس للأمم المتحدة والجامعة العربية، وظهرت سياستها ذات سمات إسلامية التواصل، عربية القضية وغير منحازة. كما أدركت الرياض مبكراً أهمية أمن الخليج فكانت مع طهران إحدى ركيزتي سياسة الدعامتين «Twin Pillars» الأمريكية.
ثم استقلت الكويت وأجبرها السوفيات على الانفتاح على الكتلة الشرقية كثمن لاستقلالها، وكان ذلك خيراً عليها لم تحسب حسابه موسكو، فقد وسع أفق السياسة الخارجية الكويتية الرأسمالية بدرجة تفوق حجمها وتاريخها السياسي، ومع بداية الثورة الإيرانية توحدت دول الخليج مصطفة لجانب العراق في الحرب، وكان اصطفافاً صامتاً، فلم يكن يخصنا من تلك الحرب إلا انتظار دفع فاتورتها. وبعد تحرير الكويت تبنت دول مجلس التعاون سياسة الاحتواء المزدوج الأمريكية ضد إيران والعراق. وكانت قيادة السياسة الخارجية الخليجية للرياض وجاءت متناغمة مع مصر وسوريا.
لقد اتسمت السياسة الخارجية الخليجية بالاعتدال، وكانت تقليدية محافظة تحمل توجهات إسلامية وعربية ومحركات نفطية، لكن الصفة الأهم في مدرسة السياسة الخارجية الخليجية تلك أنها بنيت على التحرك كرد على تطور الأحداث لا استباق لها.
المدرسة الثانية بدأت بوادرها بعد حرب تحرير الكويت بسنوات قليلة؛ حيث ظهر لأول مرة عدم التوحد بين الخليجيين تجاه قضايا عدة منها العراق المحاصر، وقضية أولوية الخطر الإيراني، وقضية التعاون العسكري مع الناتو عبر مبادرة أنقرة، وأخيراً عدم الاتفاق الكامل في الربيع العربي. وقد صاحب ظهور هذه المدرسة انتقال مركز ثقل السياسة العربية إلى الخليج كمحور سياسي فاعل ومرجعية دولية في القضايا الإقليمية بعد انهيار المحاور العربية التقليدية. فظهرت مبادرات خادم الحرمين تجاه فلسطين والأردن والمغرب ثم تجاه الخليج نفسه.
كما ميز هذه المرحلة انفتاح النوافذ القطرية التي جعلتنا نرى آفاقاً لم نكن نتصور إنجازها في سياسة الخليج الخارجية، كما حسمت المنامة دون تردد التدخل الإيراني فيها باستدعاء قوات درع الجزيرة، وهو إجراء لا تظهر قيمته إلا بتذكر أن الكويت لم تفعل ذلك عشية الغزو خشية القول بنقصان سيادتها، ونتيجة لظهور هذه المدرسة ارتفعت دعوات للوحدة الخليجية؛ إما لاعتزاز يوجب استثمار هذا الكسب للرقي بمعنى التعاون الخليجي أو لتجاوز الفروق السياسية الخليجية التي بدأت تطفو في القمم العربية أكثر منها في قمم قادة المجلس نفسها.
لقد سبقت مدرسة الانقياد مع الأحداث مدرسة المبادرة قبل وقوع الأحداث، وفي المدرسة الأولى كان الخليجيون أقل تأثيراً لكنهم كانوا أكثر توحداً، وكانت تجارتهم السياسية أقل مردوداً، لكن عنصر المخاطرة فيها كان منخفضاً. وعيب المدرسة الأولى أنّ القواعد الإقليمية قد تتغير ودول الخليج تكرر سياسة الانسياق مع تطور الأحداث، وإن لم تدمنه إدماناً لا شفاءَ منه بدليل سرعة ظهور المدرسة الثانية.
إن على دول الخليج أن تقفز للموقع الذي ينبغي أن تتموضع فيه كمركز ثقل مستفيدة من غياب المنافسين، وأن تنظر للربيع العربي وتبعاته كمبرر وحافز لتطبيق استراتيجيات الاستمرار التي تضم؛ الوحدة الصالحة لكل دول المجلس. والتحول الإصلاحي ليحول دون التحرر المفاجئ للطاقات المضغوطة. والتدرج في التحلل من الأمن المستعار من الخارج ببناء هياكل أمن جماعي دفاعي ومصمم لإعاقة أي احتلال عسكري أو فرض حل دبلوماسي أو اقتصادي طعمه مر. ولاشك أن هناك نفوراً من تغير السياسة الخارجية الخليجية في المحيط العربي، بل إن بيننا من يريد سياسة الانكفاء للداخل ويساعد الغير بالضغط التقزيمي لكل جهد خليجي، فالرجعية المستترة مازالت موجودة بيننا. فهل تعود المدرسة الحذرة القديمة أم تستمر المدرسة الجريئة الراهنة؟ هناك من يرجح ظهور مدرسة سياسية جديدة ثالثة.