«سألوني شو صاير ببلد العيد
مزروعة عالداير نار وبواريد
قلتلهن بلدنا عم تخلق جديد
لبنان الكرامة والشعب العنيد»..

أزعم أن الأخوين رحباني والسيدة فيروز لم يتصوروا عندما أطلقوا رائعتهم «بحبك يا لبنان» منذ عشرات السنين، والتي أصبحت جواز السفر لعشاق لبنان ليرافقوا سفيرته إلى القمر على أجنحة الإبداع، لم يتصوروا أن تتحول «بلد العيد» إلى وطن دائم للحزن والدمار والدماء والقتل والفتنة.
فلم تكن الحال في لبنان في يوم من الأيام إلا انعكاساً لصراعات إقليمية ودولية راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى والجرحى، إضافة لملايين المهجرين والمهاجرين في كل أصقاع الأرض في حرب أصبحت مضرب المثل فيما يمكن أن يصل إليه البشر من همجية وبربرية تجز الرؤوس وتقتلع العيون من محاجرها، وتتلذذ بالتعذيب والتنكيل وتزين الأحراش الخضراء بأجساد الصغار والكبار، وتكلل بياض الثلوج بأصابع صحافي مبدع كسليم اللوزي، ولا تزيد نظرات الأطفال المذهولين من مناظر الدماء القتلة إلا إصراراً على قتلهم والتمثيل بهم في مأساة تراجيدية قتل فيها الكل الكل، وغاب فيها أي حس حضاري وتحول فيها لبنان العنيد إلى أداة طيعة في يد هذا أو ذاك ممن يدفع ويمول الجميع ليقتل الجميع، حيث اجتمعت الأضداد وأصبح بلد الأرز ساحة خلفية لتصفية حساباتهم؛ الخميني وصدام حسين، روسيا وأمريكا، حافظ الأسد وياسرعرفات، إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، والقذافي والمخابرات الفرنسية والبريطانية..، وفي ظل هذا المشهد ارتضى الفرقاء اللبنانيون أن يكونوا مجرد أدوات لتنفيذ تلك الخطط جنبلاط والموسوي ونبيه بري وشمعون وفرنجيه والجميل وعون وجعجع.
وعندما بدأت نسائم الهدوء تعود إلى لبنان بعد اتفاق الطائف، عاد فريق من اللبنانين إلى ممارسة اللعبة التي اعتادوها وأتقنوها بتفجير كل من يختلفون معه، وحصدت هذه الطريقة البشعة أرواح نخبة لبنانية سياسية وإعلامية وأمنية، لم يكن أولهم الشهيد رفيق الحريري، ولن يكون آخرهم الشهيد وسام الحسن. وعليه فإن ما يحدث في لبنان اليوم من احتراب طائفي ومذهبي، لم يكن إلا امتداداً لتاريخ هذا البلد، والذي احترف خوض حروب بالوكالة لحساب هذا الطرف أو ذاك؛ فيشعل حرباً بالوكالة في تموز 2006 يكون شعارها «حيفا وما بعد حيفا»، ولا ينقشع غبارها وتخمد أصوات جعجعتها حتى نكتشف أن المقاومة والصمود اختطفت جندياً إسرائيلياً وكبدت العدو الإسرائيلي قتيلاً لم يكن إلا فلسطينياً من عرب 48، وحماراً أدركه الأجل جراء سقوط صاروخ ممانعة وصموداً وهو يرقد بسلام في مزرعة تمتلكها عائلة عربية؛ مقابل دمار هائل في الجانب اللبناني وأرواح نساء وشيوخ وأطفال انهارت عليهم المباني أو أحرقتهم صواريخ إسرائيل أو شردتهم حتى يومنا هذا، ويقرر نفس الطرف اليوم خوض حرب بالوكالة على أساس طائفي عن بشار الأسد لاجتثاث شعب لم يطلب إلا الحرية والكرامة.
خلال كل ما سبق لم يكن الجيش اللبناني إلا جزءاً من هذه المعادلة الطائفية وأداة بيد أمراء الحرب، هذا الجيش الذي لم يحرك ساكناً وهو يرى المخابرات السورية تختطف اللبنانيين وترسلهم إلى الموت أو تخبئهم في ثنايا المجهول، ولم يحرك إصبعاً وإسرائيل تنتهك لبنان أرضاً وسماءً، بحراً وبراً، ولم ينبس ببنت شفة وسوريا ترسل جنودها لانتهاك سيادته، لكنه فجأة يقرر ممارسة شيء مما تمارسه الجيوش من عنف على أبناء صيدا وطرابلس، تماماً كما كانت فرقته الرابعة تمارس عنترياتها على السكان العزل في مخيمي صبرا وشاتيلا.
هذا هو لبنان سيدة فيروز الذي وظفتي قيثارتك ليكون الغناء والتغني به جزءاً من ثقافتنا.. وقد كان.
ورق أبيض...
قال الشاعر الكبير مظفر النواب في رده على السيدة فيروز..
«عفواً فيروز..
أجراس العودة لن تقرع..»
وأنا أقول.. عفوا فيروز؛ فلبنان لن يخلق من جديد في ظل وجود جماعات وقوى باعت كرامتها وكرامته لمن يدفع أكثر، ورهنت شعبه العنيد لأجندات الطائفة والمذهب والدين، تحت عناوين «المقاومة.. التحرير.. الممانعة..» عفوا فيروز لم أعد أصدق نبوءاتك.