أصبح لفلسطين في الوجدان الشعبي العربي صورة نمطية مرتبطة بأعمق معاني المأساة؛ فلو نطقت اسم «فلسطين» أمام رجل الشارع، وسألته عما يتبادر إلى ذهنه من كلمات، فلا تستغرب إن جاءتك الإجابة حاملة دلالات تلك الصورة النمطية؛ الشهداء والمذابح واللجوء والشتات والقتل والتشريد والجدار العازل، وكأن هؤلاء البشر القاطنون في تلك البقعة ليسوا إلا قضية ذات وجه واحد مرتبط بالمقاومة، وهي مقاومة ارتسمت بناء على ما تقدم بصورة واحدة للمقاومة الميدانية التي تعني أن شاباً أو فتاة فلسطينية قد ينهون حياتهم في سبيل النيل من العدو، وأن أباً فلسطينياً قد يموت في استهداف سيارته في أحد أزقة غزة، وأن كل الأمهات الفلسطينيات لا يُرين إلا زائرات لأبنائهن في السجون والمعتقلات والمقابر، أو باكيات وهن يودعن فلذات أكبادهن في مشهد لا يتوقف منذ نصف قرن.
خلال الأسبوع المنصرم ثار سجال بين المتمسكين بتلك الصورة التراجيدية الأزلية التي لا ترى في فلسطين وشعبها إلا كل ما ذكرت أعلاه، وأن أي خروج على أجواء الحزن والغضب والبكاء تعد جريمة وجب محاسبتهم عليها؛ وبين أنصار شاب قرر أن يغني ويصدح بصوته ليكسر التابو، ويقول للعالم إن هذا الشعب له الحق أن يفرح لسويعات مختلسة من عمر الزمن، وإنه «لا يزال على تلك الأرض ما يستحق الحياة» كما قال المبدع الراحل محمود درويش، وينقل قضيته إلى كل مكان؛ إلى شوارع القدس التي ارتفع فيها العلم الفلسطيني لأول مرة منذ أعوام جراء الحظر الإسرائيلي، وإلى رام الله التي لم تنم، وغزة التي خرجت لاستقباله في صورة صادمة.
الشاب الفلسطيني، محمد عساف، وحد بصوته الفرقاء من أبناء وطنه، وتمكن من خلق لحظة اتفاق بين ركام الخلافات الدائمة، ووصل صدى صوته إلى الأسرى في سجونهم واللاجئين في مخيماتهم وجمع بين خفقات قلوب من حبسهم الخط الأخضر من عرب 48 والملايين من فلسطيني الشتات.
عساف؛ فتح البيوت والقلوب دونما استئذان ليشاركه أبناء الأمة العربية من المغرب للبحرين، صورة جديدة لفلسطين أخرى تضج بالحياة والفرح والابتسامة وتشع بالأمل وترد على من استكثروا على هذا الشعب قليلاً من الفرح، وأعاد شيئاً من الرمزية للقضية الفلسطينية بعد رحيل الرمز الكبير أبو عمار، صاحب الكوفية، وغياب شخصيات رمزية وازنة كأمثال إدوارد سعيد ومحمود درويش وغسان كنفاني وإبراهيم طوقان كاتب نشيد (موطني)؛ ممن جعلوا فلسطين حاضرة في كل مكان، بل تجاوزوا في تأثيرهم الدولي الإيجابي تأثير الكثير ممن قدموا أرواحهم أو غيبوا في السجون بصمت، لأنهم علموا أن هذا الصراع الطويل له وجوه متعددة لا يقل فيه تأثير الفكر والثقافة والموسيقى من تأثير البندقية.
الشاب محمد عساف؛ لم يكن إلا حاملاً لرسالة الحياة والأمل في وجه المصاعب والآلام، رسالة تدعو العالم ليرى فلسطين حاضرةً بعيون الفن والموسيقى والثقافة والعلم والاقتصاد، وتتفرس في وجوه أبنائها وجهاً لوجهاً وتحدق في عيونهم المشعة بالأمل..
محمد عساف.. فقد أعدت الأمل، اعتقد أن رسالتك قد وصلت.. «وعلي الكوفية».
- ورق أبيض..
كتب الفنان السعودي ناصر القصبي على «تويتر»: «لا تستكثروا الفرحة على فلسطين، وإن كانت بنجاح مغني في برنامج هواة.. كما سكتم سنين على موتهم.. اليوم دعوهم يفرحوا بسلام ولو لليلة واحدة».