أتعلمون ما هي «الكوزا نوسترا»؟! إنها منظمة إجرامية ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر في جزيرة صقلية بإيطاليا، وهي تحالف حر بين عصابات إجرامية تجمعها بنية تنظيمية مشتركة وقواعد سلوكية موحدة.. إنها كما نعرفها جميعاً «المافيا». والتي يتبع أفرادها قواعد وقوانين أشبه ما تكون بالتنظيم العسكري، ولعل من أهم قواعدها قاعدة «الصمت» التي تمنع إفادة الشرطة بالجريمة أو مرتكبها.
لطالما كانت المافيا وعالم الجريمة من المحاور المهمة التي تناولتها أعمال السينما والأدب والأسطورة، ولعل أهمها فيلم «العراب» المشتق من رواية ماريو بوزو، وأخرجه فرانسيس فورد كوبولا. لكن هذا لا يعني أن «المافيا» أسطورة قائمة على الخيال، ولا من صنع السينما والأدب، فلطالما شهد العالم حقيقة المافيا الإيطالية والمافيا الأمريكية، ومن ثم ظهر نوع جديد منها مثل المافيا الروسية والمافيا اليابانية «الياكوزا». ولعل من الغريب أن تكون البحرين سباقة على هذا المستوى العالمي الرفيع في ظهور نوع جديد لم يشهده تاريخ المافيا من قبل، ألا وهو «مافيا الأطفال» في سابقة نحو الإجرام المتخصص.
لن نقف كثيراً أمام استعراض آخر الأخبار في شأن الجرائم التي تعرض لها الأطفال في البحرين، فقد ملأت الصحف وشكلت من الرأي العام ما يغني عن الإخبار والتكرار، غير أن فاطمة ودعاء وراشد وأمثلة أخرى نماذج سارعت من وتيرة الغضب الشعبي في انتهاكات بعض الجهات المختصة بحق الطفولة. ما يعني ضرورة الاستجابة لسيل جارف من الأسئلة والبحث عن إجاباتها في أزقة المستشفيات ودهاليز المدارس والحافلات، وفي أماكن أخرى لم يكشف عنها الغطاء بعد. وإني على يقين أنكم بانتظار مقال أدين به وزارة الصحة ووزارة التربية والتعليم، غير أن هناك طرفاً ثالثاً شريكاً بمستوى رفيع، وهو وزارة التنمية الاجتماعية.
وقوفاً عند وزارة الصحة فليس ثمة مخرج لتبرئتها، بل لعل كوارثها الأخيرة اللافتة كانت بمثابة معبر النور لكثير من الملفات المظلمة في أدراج الأطباء وغرف الأرشيف. وكلنا نعلم أن التستر على الجريمة أو عدم التعاطي معها حسبما يقتضيه القانون إنما هو جريمة بذاتها، ولعل هكذا أمر يقودنا لوضع موقف وزير الصحة على طاولة النقاش، فقد كان يغط في سباته العميق، الذي لم يوقظه منه إلا سمو رئيس الوزراء بقرار إيقاف الطبيبتين، وبرأيي.. فإن هكذا وزراء «لا حاجة لنا بهم» وأقولها بملء فمي، ثقة ويقيناً بما أقول. وزير الصحة شريك في مافيا الأطفال بصمته، القاعدة الأهم في التنظيم. وأتساءل ما دور «لجنة حماية الطفل من سوء المعاملة والإهمال» في وزارة الصحة عما يحدث؟! أم أن جعجعاتهم لا تنال إلا من هم خارج الوزارة.. برأيي أن من بيته من زجاج عليه ألا يرمي الناس بحجر، قفوا على كوارثكم أولاً!!
وزارة التربية والتعليم لعلها الأكثر مهنية وتقديراً للمسؤولية واحتراماً لحقوق الطفولة في البحرين، بتعاطيها الفوري مع الأمر والمسارعة بتعليق الدراسة في المدرسة المعنية، لحين اتخاذ القانون مجراه.
أما وزارة التنمية الاجتماعية فلنا وقفة مع وزيرتها الموقرة، في تصريح لها حول تدشين الخطة الوطنية لحماية الطفل من الإهمال، نشرته صحيفة محلية يوم الأربعاء 19 نوفمبر 2008، جاء فيه: «مما لاشك فيه أن ظاهرة العنف ضد الأطفال من أكثر القضايا الحساسة التي مازالت خفية إلى حدٍ كبير، ما يفاقم معاناة الأطفــال ويعرض حياتهم للخطر، إلا أن التطور الاجتماعي والسياسي للمجتمعات حوّل الأمر إلى الواجهة، باعتراف العالم أجمع من خلال الانضمام لاتفاقية حقوق الطفل على أن إيذاء الأطفال ليس شأناً خاصاً بل شأناً عاماً يخص المجتمع برمته، فإيذاء الأطفال يشكل انتهاكاً لخصوصية الطفل وجسده وكيانه وانتهاكاً لأبسط حقوقه الإنسانية وهو الحق في الحياة والسلامة الجسدية والنفسية». وأضافت «تم صوغ أهداف الخطة بعد وقفة ومراجعة للوضع الراهن وتحدياته، واستناداً إلى المرتكزات الثقافية والوطنية لشعبنا والمتمثلة في التعاليم الدينية السمحة وعلى دستور مملكة البحرين «...» وعلى المرتكزات النابعة من التزاماتنا الدولية بانضمام البحرين لاتفاقية حقــوق الطفـــل العـــام 1992 والبروتوكوليــن الملحقين بهما العام 2004، والانضمام إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية العام 2006، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة «السيداو» العام 2002».
أتسعفنا وزارة التنمية الاجتماعية بالإجابة على تساؤلاتنا حول ذلك التناقض الكبير ما بين التصريحات الصادرة من وزيرتها الموقرة وما بين التطبيقات العملية لها؟ لقد أنشئ مركز حماية الطفل تحت مظلة وزارة التنمية الاجتماعية في 2007، وقد جاء في الموقع الإلكتروني للوزارة حول المركز، أنه «يهدف لحماية المجتمع من المعتدي وتحميله المسؤولية»، كما إن حالات الإهمال الشديد، من الحالات التي يتعامل معها المركز والمعلنة في الموقع المذكور، والسؤال، أهناك ما هو أشد خطراً من الموت؟ أهناك أخطر من هكذا اعتداء يوجب تحميل المسؤولية لمرتكبه؟ قد يكون الجواب أن أمراً كهذا لا شأن لمركز حماية الطفل به ليكون العذر أقبح من الذنب، واستدراكاً للوقت الضائع في هكذا ردود أقول أغلقوا «مركز صمّ الآذان عن حق الطفل في الحماية»!!
جاء كذلك في موقع وزارة التنمية الاجتماعية، وتحت عنوان «كيفية وصول البلاغات إلى المركز»، ما نصه: «يتلقى المركز البلاغات والشكاوى من الأطفال وذويهم والمهنيين من أطباء وأخصائيين ومدرسين وغيرهم من المواطنين»، ترى.. أوليس الرأي العام حول القضية نوعاً من البلاغات الضمنية والتي تقدم مؤشراً شعبياً لضرورة التحرك؟ أم أن رأي الشعب بأكمله يلقى في سلة المهملات لعذر تافه مفاده أن أحدهم لم يتقدم بشكوى رسمية؟!
إنه صوت المواطن المبحوح.. ألم تسمعوه وأنتم في أبراجكم العاجية؟!
** رسالة:
سعادة وزيرة التنمية.. ماذا فعلتم بتلك الاتفاقات التي أشرتم لها في خاتمة التصريح المذكور أعلاه؟ أولم توجب إحداها أو بعض بنودها حركة جادة وصارمة من قبل سعادتكم لوقف نزف البحرين أطفالها؟ كلي أمل أن أجد ما يدحض رأيي في هذا الشأن، إن كان في ذلك ثمة مصلحة للوطن وحفاظاً على أطفاله، وألا تكون تلك الاتفاقات ضرباً من التسويق للوزير واستدراراً للوهج الإعلامي.
** نبضة قهر:
جارٍ البحث عن سيناريست محترف في أفلام الجريمة ليلقي الضوء على تحديثات المافيا في إجرام متخصص مبدع. من وحي «مافيا الأطفال» في البحرين، وله حرية الإشارة في مقدمة فيلمه «هذا الفيلم من صنع الخيال، والتشابه المحتمل في الشخصيات أو الأحداث إنما هو مجرد صدفة».
** نبض السؤال:
السؤال الأخير المطروح، لو كان أحد المتضررين ابن وزير الصحة أو وزيرة التنمية الاجتماعية ما عساهم فاعلين؟! أترك الإجابة للقارئ الكريم، احتراماً لفضاءات التأويل.