عندما تذهب لطبيب الأسنان فيحفر جزءاً من ضرسك المصاب أو النخر، إنما هو عمل صائب، فإن تركه فراغاً بلا حشو، فهو غباء، وإن حشاه بالسوس؛ فتلك هي الكارثة.!!
هكذا تعمل نظرية الفراغ السياسي على تأكيد وترسيخ مبدأ رئيس، إنما هو مما أفضت لنا به دروس السياسة في الساحة الدولية على امتداد التاريخ، إذ سطرت لنا حوادث الدهر قاعدة هامة تقول: «إذا تركت مكانك فسيكون فراغاً، وكل فراغ لا بد أن يمتلئ يوماً، فإن أصبح كذلك؛ لا بد أن يقوم غيرك بملء هذا المكان».!!
ويمكن القول إن الفراغ الذي خلفته الدولة في البحرين، كان نتاجاً لتخليها عن كثير من أدوارها الهامة والتي هي بمثابة مرتكزات الولاء المواطني على أرض هذا الوطن. الفراغ الذي سرعان ما استغله الطامعون في البحرين من كل صوب وناحية على اختلاف مللهم وآيديولوجياتهم؛ فسدّ الفراغ إنما هو سياسة استعمارية أكثر حضارية، أفقدت الدولة كثيراً من مكانتها وحظوتها في الولاء الشعبي.
تعد الطفولة والمراهقة والشباب، مراحل عمرية ثلاث يراهن علماء النفس والاجتماع على حساسية كل منهم، وعلى ما تمتلكه من خصائص ذات علاقة برسوخ المبادئ والعقائد والولاء، وحتى الاستغلال الأمثل للفكر والطاقة باعتبارهما أهم عنصرين فاعلين في الإنسان.
وعندما تتخلى الدولة عن مسؤوليتها تجاه تلك المراحل الثلاث، رغم ما تمتلكه من مؤسسات تعنى بهذا الشأن، فمن الطبيعي أن يسد ذلك الفراغ آخرون ندرك جيداً أهدافهم المستقبلية الطامعة، بغض النظر عما استظلوا به من أغطية دينية أو ثقافية وغيرها.
المراحل العمرية الثلاث التي نتحدث عنها، إنما هي بأمس الحاجة لبرامج حياتية متكاملة في كل أرجاء البلاد، شاملةً تلبية الاحتياجات العقائدية والثقافية والاجتماعية فضلاً عن الترفيهية. الأمر الذي تبناه عدد لا يستهان به من المنظمات الأهلية والحزبيات على اختلافها، ما يجعل من المستفيدين عرضةً للتشكيل والأدلجة في وقت مبكر ومراحل حساسة من أعمارهم.
لعل من الإنصاف الإشارة لما حققته المؤسسة العامة للشباب والرياضة من مستوى نوعي مُرضٍ نسبياً، من الأنشطة المختلفة للمراهقين والشباب، وكذلك الأطفال عبر بعض المراكز التابعة لها، وتشترك معها بمستوى نوعي منخفض جداً وزارة التنمية الاجتماعية من خلال مراكز الأطفال والناشئة وغيرها، إذ لا تحقق جديداً يلبي احتياجات المستفيدين بصفة حقيقية إلا فيما ندر -بمعزل عن الزخم الإعلامي الذي تقدمه كل منهما لأنشطتها، ومع ذلك يبقى السؤال المطروح: ما نسبة المستفيدين من تلك البرامج على اختلافها إلى نسبة المواطنين البحرينيين من كل مرحلة عمرية تستهدفها تلك الأنشطة؟ الإجابة بلا شك ستكون مخجلة جداً.
وعند مزيد من التفنيد، لا بد أن نطرح السؤال الثاني؛ أين ذهب بقية المواطنين ممن لم يشتركوا في أنشطة الدولة التي لم تلبِ احتياجاتهم ربما؟ ولعل الإجابة نفسها تقودنا لعدد من المشاكل الاجتماعية الجديرة بالبحث والدراسة إن كان أمراً كهذا يشغل اهتمام وزارة التنمية الاجتماعية مثلاً، وغيرها من المؤسسات المسؤولة.!! ومن المؤكد أن الإجابة على هذا السؤال ملأى بكثير من البدائل المتاحة في البحرين، من منظمات أهلية وحزبية أشرنا لمسارعتها سد أي نقص أو فراغ يحقق لها مطامعها ويسهل لها أدلجة مزيد من المنتسبين. لذلك فإننا نجد لديهم مستوى مختلفاً نسبياً من الجدية والجاذبية التي تتمتع بها برامجهم الدعوية والترفيهية والثقافية والاجتماعية على السواء.
السؤال؛ هل يمكننا إلقاء اللوم على المنظمات الأهلية والحزبية؟ وقد أسدوا للدولة كثيراً من الخدمات بتوفير الجهد والمال والوقت وتلبية الاحتياجات التي غفلت عنها الدولة للمواطنين؟ عندما نبحث في زقاق تلك المنظمات ونفتش في قناعات منتسبيها والمستفيدين منها، سنجد بلا أدنى شك ولاءً جزئياً فريداً لتلك المؤسسة أو المنظمة، ولاء على حساب الدولة، وإنما هذا الولاء أمر طبيعي لما قدمته لهم من جميل وإن كان «جميلاً خبيثاً»، «فهل جزاء الإحسان إلاَّ الإحسان»؟!.
إن الإجابة عن السؤال الأخير والتفكر بما تلاه، بحاجة لوقفة جادة من قبل الدولة، ومراجعة كثير من نواقصها ودراسة آليات استعادة مكانتها بعدما فتحت الأبواب على مصراعيها لـ «كلّ من هبّ ودبّ» ليكون مربياً وموجهاً ومرشداً ومؤدلجاً. غير أن الفراغ الذي خلّفته الدولة في الساحة البحرينية لم يقتصر على أمر كهذا وحسب، وإنما هناك مزيد من الفراغات في عدة ميادين رسّخت صوراً مختلفة للولاء لغير الدولة والوطن، وهو ما يجب على الدولة التنبه له بجدية إن أرادت لنفسها البقاء.
مزيد من الفراغات سنتعرض لها في المقال القادم للكشف عن سوس الأسنان وأنواعه.