الثورات غير المنتهية كانت سمة عالمنا العربي قبل أن يحل محلها في الجسد نفسه وسم جديد. فقد سميت حركة «الياسمين» التونسية و»25 يناير» المصرية و»التغيير» اليمنية و»17 فبراير» الليبية وما يجري في سوريا حالياً بثورات الربيع العربي، ويطلق البعض مسمى الموجة الثانية من الربيع العربي على الحركة التي تجري حالياً لتغيير مسار هذه الثورات؛ فظهرت في مصر وتونس كتمرد ضد حكم الإخوان، بينما ظهرت في ليبيا واليمن برفض السياسات والاحتجاج على تشكيل الحكومات؛ وحتى في سوريا -الثائرة إلى الآن- تدخل الغرب بزج الموجة الثانية قبل انحسار الأولى لتغيير مشهد الثورة والثوار. ورغم أن الموجه الثانية من الربيع العربي حدثت داخل دول تعرضت للموجة الأولى وليس في الخليج العربي. إلا أن تبعات الموجة الثانية لم تكن أقل وضوحاً في الخليج من تبعات الربيع العربي نفسه.
- في الخليج العربي يبدو أن الموجة الثانية قد حركت لدى صانع القرار قناعات أدت للتريث في تحقيق مشروع الوحدة الخليجية، فتدثرت لجان إنجازه بصمت غير مبرر استمر لأشهر ستة. فالربيع العربي كعامل ضاغط دفع العواصم الخليجية للاحتماء بمشروع الوحدة. وكأي حدث تاريخي رئيس توقعنا أن يترك أثراً في الجغرافيا السياسية الخليجية كتشكل وحدة تضم دول المجلس الست. لكن الموجة الثانية من الربيع أظهرت أن الربيع العربي إعصار ذو موجات متوالية متعددة الأشكال، وشككت بذلك في كون مشروع الوحدة الخليجية -المبهم حتى الآن- قادر على أن يكون كاسر الأمواج المنتظر.
بل إن هناك من يرى أن الاتفاقية الأمنية التي أتت كدعامة أخرى لهيكل التعاون الخليجي وخطوة نحو التكامل الخليجي كالوحدة الجمركية واتفاقية الدفاع المشترك، مثلت في حقيقتها انحراف بالحلم الخليجي عن مساره. فظهور الشرطة الخليجية الموحدة قبل الوحدة السياسية والاقتصادية والعسكرية ربما هو إجراء أمني للحكومات الخليجية كجزء من الموجة الثانية.
وإذا كانت الموجة الثانية من الربيع العربي قد أتت لتقويم مسار الثورات فالموجة الثانية في الخليج والحالة هكذا هي هجوم معاكس على موجة الربيع العربي الأصلية.
- رغم احتفاء الشارع الخليجي في البداية بالربيع العربي، إلا أن هناك تراجعاً في هذا الاحتفاء إن لم نقل نفوراً موجهاً من قبل جهات عدة. حيث صورت ثمار الربيع وقد سقطت في يد التيار الإسلامي، والتقط الإخوان المسلمون تحديداً الثمار الأولى، فأصبح «ربيع» جماعة الإخوان لوحدهم. ولكون الجماعة تنظيماً شمولياً محكماً فقد قدرت دوائر خليجية أن الربيع «العربي الإخواني»، قد يخدم تحركات الجماعات المحلية كلاعب سياسي أكثر من غيرها.
ويبدو أن الإخوان أنفسهم في لحظة الانتشاء قد بالغوا في الاحتفال بالنصر، فشنت عليهم أكثر من عاصمة الحرب الباردة، وتعرض أعضاء الجماعة في الخليج للزجر والتشويه الإعلامي مرة وللتحقيق والتشكيك بالولاء والانتماء؛ بل وسحب الوثائق الوطنية مرة أخرى. ثم تم إبطال البرلمان الذي مثلوا فيه الأغلبية في دولة ثالثة. كل هذا الارتداد تم رغم إن بعض هذه الدول سايرت الإخوان في بداية الربيع العربي وباركت وصولهم للسلطة استئناساً بالتوجهات البراغماتية الغربية.
في تقريره المعنون «اتجاهات شاملة 2030» أكد المجلس الوطني للاستخبارات الأمريكية، إن الربيع العربي «أثبت الشرعية الأخلاقية للنضال غير العنفي». بمعنى جدوى التطور التاريخي للقوة المدنية وللعملية الديمقراطية وجدوى الرفض الإيجابي. فإذا كنا كخليجيين لم نتعرف في شوارعنا على تشي جيفارا وكتبه وتحريضه وحروبه التي بدون أفق. ثم تجاسرنا مؤخراً لنتجول مع المهاتما غاندي يداً بيد كما في «مسيرة الملح»؛ إذا كان الخليجيون كذلك فهل صانع القرار الخليجي مجبر على ركوب الموجة الثانية وهي لا شاطئ لها! نتحدى التحليل العقلاني أن يقول عكس ذلك، فأفضل تصور لمستقبل الخليج هو حدوث تحول ديمقراطي سلمي منضبط.