مهما بدت مختلفة؛ تتشابه كل الجماعات المغلقة في طريقة تعاطيها مع أفرادها الراغبين في التغيير الطامحين للتعبير عن ذواتهم وسماع أصواتهم بعيداً عن الترانيم الجماعية لكورال التنظيم، ولعل الخطوة الأولى في التعامل مع رافضي مبدأ الانقياد لثقافة «القطيع» هي؛ التحذير فالنبذ فالمقاطعة فالتهديد، وقد يصل الأمر إلى الإيذاء والقتل، لا يختلف هذا الأمر عندما يتعلق بالدكتورين محمد حبيب أو عبدالمنعم أبوالفتوح أو المحاميين مختار نوح وثروت الخرباوي، المنشقين جميعاً عن تنظيم الإخوان المسلمين، أو قامة عالية كآية الله منتظري الذي انتقل إلى جوار ربه في ظروف غامضة بعد أن عبر عن رأيه واتخذ موقفاً مناصراً للإصلاح خلال الانتخابات الدامية في إيران قبل أعوام، أو السيد محمد حسين فضل الله قبل أن يرفع الراية البيضاء وينهي حياة الانشقاق والتمرد بالعودة إلى بيت الطاعة الإيرانية إبان حرب تموز 2006 تماماً، حيث ترى الجماعات المغلقة في المنشقين بما يحملونه من رؤى وأفكار نابعة عن تجارب وخبرات خطراً يجب الخلاص منه.
من هنا لم يكن الشيخ صبحي الطفيلي والسيدان هاني الفحص وعلي الأمين استثناء في تلك القاعدة التي تذوب أمامها الاختلافات الأيديولوجية وتبقى ثوابت التعامل مع حالات الخروج عن المألوف وممارسة الحق في الاختلاف، ولعل المحامي اللبناني والأستاذ في الجامعة الأمريكية الدكتور رامي عليق لم يكن بدوره استثناء إلا في الصلابة والتفرد في الإبداع لينظم موقفه فكراً ضمنه في كتابين رائعين.
استمعت إليه وهو يطلق على مدى 25 دقيقة وخلال إطلالة على الجمهور من خلال شاشة «العربية» صرخة مدوية محذراً من حريق يأكل الأخضر واليابس، يبدأ بالشيعة وينتقل إلى لبنان ومن ثم المنطقة.
وأشار عليق، القيادي السابق في حزب الله خلال اللقاء، إلى أن ما قام به الإيرانيون يعد استغلالاً لمشاعر الشيعة اللبنانيين لتنفيذ أجنداتهم الخاصة دون أي اهتمام بفكرة المقاومة التي أقيم على أساسها «حزب الله».
رامي عليق خرج عن صمته وتحدى جبروت «الحزب» الذي حاول اغتياله ليخرس صوت الحقيقة، فكتب كتابه الأول «طريق النحل» عام 2008، والذي فجر المفاجأة الأولى في وجه «القيادة الولائية» للحزب، فاجتمع أعضاء شورى الحزب ثلاث مرات لمناقشة الكتاب، وانتدب نصرالله أحد الأعضاء للتفاوض مع عليق، الذي رفض التنازل عن أفكاره ومبادئه المطالبة بتصحيح حركة الحزب، كحزب مقاوم بعيداً عن التدخل الإيراني أو تقسيم المجتمع اللبناني والعربي إلى طوائف.
المفاجأة الكبرى الثانية التي فجرها عليق؛ كانت إصدار كتابه الثاني «تحت المياه الخضراء»، والذي صادرته قوى الأمن اللبنانية فوراً، وكان من الواضح أن هذا القرار قد اتخذ بإيعاز من حزب الله في محاولة لمنع وصول صوت عليق إلى الرأي العام.
عليق.. نشأ وترعرع في أحضان حزب الله، وشهد انطلاقته الأولى، وتربى على أفكار وقيم ومبادئ كان الحزب يروج لها من قبيل؛ الممانعة، التحرير، المقاومة، العمل الإسلامي المشترك..، وكلما تدرج في الحزب اكتشف أن هذه المصطلحات لم تكن إلا لذر الرماد في العيون، والسيطرة على الطائفة الشيعية لتنفيذ أجندات إيرانية هدفها الأول والأخير تقسيم لبنان والمنطقة طائفياً ودينياً وعرقياً.
في الكتابين يوضح الدكتور عليق آليات العمل داخل الحزب، والذي يتميز بالتفرد بالقرار داخل مجموعة صغيرة من «الولائيين» دون أي اعتبار لآراء مئات بل آلاف الأعضاء، معتبراً أن حزب الله فسد «كثورة»، وتعددت أوجه هذا الفساد لتشمل الفساد السلطوي والمالي، مشيراً إلى أن الجماعة واسعة النفوذ داخل الحزب «الولائية» هي من تقرر تعيين النواب والوزراء في الدولة اللبنانية، مشيراً إلى أن «التخمة المالية» داخل الحزب أصبحت واضحة وتعدت الحدود الطبيعية وأصبحت منظورة للجميع.
آراء عليق الجريئة أدخلته في سلسلة من الصدامات مع الأهل والمجتمع والحزب، وحملت فكراً بنكهة مختلفة وتوجهات تمس جوهر العلاقة بين الدين والإيمان؛ حيث أصبح الدين تبعاً لعليق «انتماء اجتماعياً وسياسياً وعقائدياً أكثر منه انتماء دينياً» وهي آراء حملت له الكثير من المشكلات، حيث انهال عليه خصومه بالسباب والشتائم والتهديدات على موقعه على «الفيسبوك» و»تويتر» وعبر الهاتف، ثم تطور الأمر إلى إنشاء صفحات مخصصة للنيل منه والتشكيك في مصداقية أطروحاته، ولعل عدم توقف الأمر عند هذا الحد والوصول إلى محاولة اغتياله على مشارف مسقط رأسه في بلدة يحمر بالنبطية، وهي الحادثة التي لجأ بعدها عليق إلى النائب العام التمييزي واتهم سبعة عشر عنصراً من حزب الله بمحاولة اغتياله بعد استدراجه إلى كمين.
يرى عليق بعدم إمكانية إصلاح الحزب في ظل القيادات الحالية، ويؤكد أنه كان قد طرح ورقة لإصلاح الحزب في نهاية التسعينات، تتكون تلك الورقة من ست نقاط لمحاولة انتشال الحزب من الحالة التي جره إليها ساسته، وأن المخرج اليوم هو بانتفاضة يقودها المعتدلون داخل الحزب ممن همشوا وأسكتت أصواتهم لصالح «الولائيين» أو انتفاضة شعبية لتصحيح المسار بعد أن سار الحزب بعيداً عن أولوياته الوطنية وابتعد شوطاً طويلاً عن المقاومة.
لا أدري إن كانت طموحات رامي عليق المشروعة في التغيير أكبر من قدرته وقدرة الطامحين من أمثاله من مواطنيه اللبنانيين، وأكبر من خيبات الأمل العربية التي دفنت هتافاتها وتمجيدها لحزب توسمت فيه مقاومة الكيان الصهيوني، فإذا به يقاوم أطفال سوريا ويغتال أحلام شعبها في الحرية والكرامة، لكني أعلم يقيناً أن الطريق شاق أمام كل من يفكر في رمي حجر في المياه الراكدة ويرفض أن يكون مجرد فرد في قطيع الانقياد.