أثارت انتباهي وحفيظتي في آن، تلك التعليقات التي أوردها بعض القرّاء على مقالاتي الأخيرة في الشأن التركي، سواء على الموقع الإلكتروني لـ «صحيفة الوطن البحرينية» أو على مواقع التواصل الاجتماعي وأبرزها «تويتر»، والتي رحبت بهيمنة تركية على الشرق الأوسط باعتبار تركيا بلداً مسلماً سنيّاً، كبديل مناسب ومقبول عن بسط الهيمنة الفارسية كون إيران جمهورية إسلامية شيعية، وذلك في ظل التسليم بضعف منطقة الشرق الأوسط -سياسياً وعسكرياً على وجه التحديد- حسب رأيهم- وحتمية الهيمنة الاستعمارية. وليس ذلك انحيازاً لرأي شخصي بقدر ما هو بناء تحليلي قائم على قراءة رشيدة لموروثات تاريخية ومعطيات سياسية راهنة.
ولو تمعنّا جيداً في تاريخ تركيا باعتبارها بلداً علمانياً يعتنق 99.8% من شعبه الديانة الإسلامية، سنجده خلع جلباب الإسلام وعمامته بمنتهى السهولة لأسباب يأتي في مقدمتها هوس الانضمام للاتحاد الأوروبي، وها هي ذات تركيا تنزع مجدداً للتخلي عن العلمانية في انجذاب مفاجئ لتاريخ امبراطوريتها «الإسلامية». فهل ستعيد تركيا بـ»عثمنتها الجديدة» مجد الإسلام وعز المسلمين من جديد؟!
تركيا بلد قد واجه من الأزمات والانتكاسات عبر تاريخه ما جعله متمرساً في ألعاب السياسة العالمية، وقد عرفت «من أين تؤكل الكتف» منذ أمد بعيد -غريزياً ربما. وقد طبقت عدداً من الاستراتيجيات الجديدة لتقلب بذلك موازين الأمور وتُسيّر السفن في عدّة منحنيات سياسية حسبما تشتهي وحدها. إذ تقوم السياسة التركية على وضع خطط واستراتيجيات العلاقات الدولية بما يحقق مصالحها في كل مرحلة، ولعل أبرزها ذلك المسار الذي رسمته لنفسها في علاقتها مع أمريكا وإسرائيل في الخطة «أ»، ثم ما لبثت أن وضعت أثناء ذلك خطة «ب» في حب أوروبا، فيما كانت الخطة «ج» العلاقات التركية الشرق أوسطية والعربية تحديداً.
ويمكن القول بتجاوز تركيا للمرحلة الأولى مع الاحتفاظ ببعض مميزاتها ومكتسباتها عند الضرورة، رغم التخلي عنها وممارسة «الدور البطولي» على حسابها، مثل ما فعله «أردوغان» في «موقعة دافوس» التي أشرنا إليها في مقال سابق، والتي هاجم فيها العدوان الإسرائيلي على فلسطين، رغم تخلي تركيا عن الأخيرة عمداً في وقت سابق لصالح إسرائيل عند قيامها من أجل مصالحها التي أشبعناها تفصيلاً.
ولن نقف عند خطة «ب» كثيراً، فقد تناولنا تفاصيلها في مقالٍ سابق عنوانه «الأناضول العثمانية والحديقة الأوروبية»، ووقفنا على الحلم التركي في الانضمام للاتحاد الأوروبي، ومعوقاته. ونورد في هذا الخصوص نظرية «الإشراط الكلاسيكي» المعروفة بـ «جرس الكلب» التي تطبقها دول الاتحاد على تركيا في تحفيز دائم يسيل له اللعاب التركي بغزارة، من دون وعي بفتور قريب للرغبة التركية، تلك النتيجة الحتمية التي قدمها «إيفان بافلوف» في نظريته. ولذلك نجد تركيا قد وضعت –قبل فوات الأوان- الخطة «ج» لكي لا تضحي فريسة رغبتها الملحة في تحقيق حلم الانضمام الأوروبي الذي لطالما انتظرته بشغف.
تعد الخطة «ج» في الشرق الأوسط ملاذ تركيا، حيث توجه طموحها نحو جغرافية أخرى بطبيعة مغايرة زاخرة بالثروات والخيرات والمميزات، تستدعي خلع العلمانية والرجوع لذات الجلباب والعمامة القديمين، ولكنها إن أعلنت العودة فلا شك أنها ستقوم بتحديث ذلك الجلباب البالي الرثّ، واستبداله بجلباب إسلامي «عصري» وعمامة «فارهة» من الخيرات الشرق أوسطية، في تمهيد فاضح لإقامة «عثمانية جديدة»، وهو ما أشرنا إليه في المقالة المذكورة أعلاه حول مغازلة الشرق الأوسط والارتماء في أحضانه.
ولعل الباحث في أسباب سقوط الإمبراطورية العثمانية، يجد عن كثب التفريط في الدين والمبادئ الإسلامية، وظهور الفِرق الضالة التي تنسب نفسها للإسلام، نحو البهائية والقاديانية والنصيرية وغيرها كثير. فضلاً عن تحوّل علماء الأمة لألعوبة بأيدي الحكام الجائرين، في تسابق لافت على المناصب والمراتب، وما ترتب عليه من ضعف عام كان سبباً في تجرؤ القوى المعادية والاستيلاء عليها، إلى جانب إهلاك الإمبراطورية ومسخ هويتها. زد على ذلك، تلك الرفاهية التي نالتها الطبقة الحاكمة في الإمبراطورية إثر استنزاف ثروات العرب تحديداً!!
لقد عشقت بعض الشعوب العربية الهيمنة التركية، لكونها بلد «مسلم» قاب قوسين تحتها خط أحمر!!
وبعد سطوع نجم «مهند» و»يحيى» و»لميس» وآخرين، وبعدما روجت تركيا لنفسها إعلامياً وفنياً وسياحياً ومن ثم سياسياً بوهج البطولات ضمن استراتيجية «الاحتواء» اللعوب، والتي تراود فيها الشرق الأوسط عن نفسه، مع الأخذ بدروس مستفادة من قصة يوسف –عليه السلام- وتنفيذ خططها «بلا قميص»!!
تلك هي «العثمنة الجديدة»؛ استنزاف للثروات، أطماع جيوسياسية واقتصادية، تحت العمامة الإسلامية. ويبقى السؤال مطروحاً: «أتلك «العثمنة» التي تتوق إليها بعض الشعوب العربية وتفتح الأذرع لاستقبالها عوضاً عن الاستعمار الإيراني للمنطقة؟!» هه!!