تناولت سلسلة من المقالات السابقة الشأن التركي بأبعاد مختلفة، ورغم أهمية الملف التركي كخطر محدق بمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي تحديداً، إلاَّ أنه يمكن القول إن له شركاء في التهديد، حيث تناولنا فيما سبقه الملف الإيراني، وقبله الأمريكي المتصهين مع إسرائيل، الذي تناول باستفاضة الخطط والتكتيكات الغربية استعداداً لمعركة «هرمجدون» المستقبلية والمتنبئ بانطلاقتها من أرض الفرات، والتي ذاقت على إثرها العراق الويلات تلو الويلات، فضلاً عن المشروع الكبير لـ»برنارد لويس» في تقسيم المنطقة. وتحدثنا في مقال «عجوز أمريكا وفاتنة طهران»، عن المؤامرة، وعن شباب الحضارة الأمريكية الذي أوشك على الزوال، مع حتمية عدم دوام شباب إيران كذلك -لاسيما سياسياً- وفق المراحل التي قسّم بها ابن خلدون الحضارات البشرية.
كما تناول مقال «استثمارات فارسية» العلاقات المشبوهة بين العراق وإيران وما قد تشكله من خطر آخر على المنطقة، لا سيما في ظل عضوية العراق في مجلس وزراء الداخلية العرب، وكشف خطط واستراتيجيات التصدي للإرهاب في المنطقة، الأمر الذي أوردنا فيه تحذيراً من ائتمان النظام العراقي القائم، حيث تجري سيول الود بينه وبين إيران من تحت الطاولة وعلى جانبيها.
ولعل الاعتذار الإسرائيلي لتركيا، هو ما أوجب التعجيل بالحديث عن الأخيرة في عدد من المقالات، لتتبلور صورة المؤامرة والتناحر على منطقة الشرق الأوسط، مع استعراض للكيانات السياسية المتحفزة للنيل من المنطقة على عجالة، نحو تركيا وحلفائها، وإيران وحلفائها، أولئك الحلفاء الذين سنتناولهم بمزيد من الجدية في الطرح والتفصيل ذات مرة، وربما أكثر.
ولكننا حتى اللحظة ما زلنا نلعب «لعبة البازل»، ويبدو أن القطع لم تكتمل بعد لتتضح الصورة كاملة للقارئ، الأمر الذي يستوجب فتح مزيد من الملفات، واحداً تلو الآخر، في تصوير كامل للمشهد، إلى أن تكتمل الرؤية لتلك المؤامرة العالمية الضخمة!!
من هنا، فإننا بحاجة لتناول بعض الروابط المعقدة، والقضايا المشتركة بين «قوى التهديد» للشرق الأوسط والخليج العربي، لأن عدم الإشارة إليها أو الوقوف عندها هو ضرب من إنكار الموجود، والذي من شأنه فيما بعد الإخلال بالبناء التحليلي. ومن هنا.. نبدأ بقراءة الصفحة الأولى من «القضية الكردية»، نظراً لما تحمله من أبعاد جيوسياسية، وجيواقتصادية، وجيوثقافية، فضلاً عن الأبعاد الجيوإثنية.
يقيم الأكراد في منطقة «كردستان الكبرى» والمتوزعة على أربعة دول رئيسية في منطقة الشرق الأوسط، قدرت الإحصاءات في 2012 نسبة توزعهم كالتالي: الأكراد في جنوب شرق تركيا «56%»، الأكراد في شمال غرب إيران «16%»، الأكراد في شمال شرق العراق «15%»، الأكراد في شمال شرق سوريا «6%». أما نسبة الـ «7%» الباقية فهي موزعة في أنحاء العالم، تأتي أهمها في ثلاث دول أخرى بنسب أقل عن سابقتها، وذلك في كلٍ من أرمينيا وأذربيجان ولبنان. ومن ثم تأتي بقية دول العالم، ومنها في الشرق الأوسط البحرين والكويت والأردن.
وقد أثار البحث في أصول الأكراد جدلاً بين المؤرخين، ويبدو أن إرجاعهم إلى البدو الرعاة ساكني الخيم من أبناء فارس، والذي جاء في بعض الروايات ليس على قدرٍ عالٍ من الصحة، أو على أقل تقدير لا يخضع لأصل عموم الأكراد.
وقد أورد آخرون أن نسبهم يعود إلى العرب من نسل عمرو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء، ويعزز هذا الرأي قول شاعر:
«ولا تحسب الأكراد أبناء فارس***ولكنهم أبناء عمرو بن عامر».
ويبدو أن لا هذا ولا ذاك صواباً بقدر رأيين آخرين ربما يكونان الأقرب للصواب، الأول: انتماؤهم لشعوب «جبال زاكروس» أو «زاجروس»، والثاني: أنهم يعودون لأصول «هندو-أوروبية». وربما يكون الأصوب من كل ما سبق أن الأكراد طبقتان، طبقة أكراد أصليين وهم شعوب «جبال زاجروس»، وطبقة ثانية ذات أصول «هندو-أوروبية» استوطنت كردستان وامتزجت مع شعوبها، ونتج عن تمازجهما الأمة الكردية.
يطرح هذا عدداً من الأسئلة حول أسباب توزع الأكراد على عدد من الدول على النحو الذي أوردناه أعلاه، وحول دورهم في تشكيل الخطر أو دعمه. وقبل ذلك، يفرض سؤالاً آخر نفسه حول موقعهم في الدول الأربع سابقة الذكر وعناصر الاتفاق والاختلاف في كل دولة منها، والأدوار السياسية التي من شأن الأكراد ممارستها في العلاقات الدولية بين تلك الأطراف الأربعة بعضها بعضاً، أو مع بقية دول العالم، مؤثرةً فيها ومتأثرة بها. وعدد كبير من الأسئلة التي سنجيب عليها لاحقاً وتباعاً، فانتظروا التتمة.