حسناً فعلت الحكومة اللبنانية حين التزمت بالروح الأخوية والمبادئ الإنسانية في معالجة استقبال النازحين من سوريا، فهي بالتزامها هذا صانت سمعة لبنان وكرامته وأكدت وفاءه لجملة قيم شكلت على الدوام مبرر وجوده.
في طليعة هذه القيم أن لبنان كان على مدى الزمن، ملاذاً لكل من كان بحاجة إلى ملاذ، وموئلاً لكل من جارت عليه الأيام، فكيف إذا كان المستجيرون به أخوةً عرباً سوريين كرماء طالما فتحوا قلوبهم قبل بيوتهم لمئات الآلاف من اللبنانيين في ساعات الشدة وأيام المحن وعبر محطات دفع ثمنها اللبنانيون من كل الأطراف.
في طليعة هذه القيم أيضاً إدراك اللبنانيين ربما أكثر من أي شعب من شعوب العالم لمعنى أن يضطر مواطن أو عائلة أن تغادر بيتها وبلدتها بسبب ظروف خارجة عن إرادتها، ألم تفتح بلدان العالم كلها، وفي طليعتها البلدان العربية وخصوصاً سوريا، ذراعيها لاستقبال ملايين اللبنانيين على مدى العقود حين فاق عددهم خارج بلادهم عددهم داخلها مرات ومرات.
وإذا كان للبعض الحق في أن تأسره هواجس أمنية وديموغرافية وسياسية باتت جزءاً من الموروث النفسي والعصبي لشرائح لبنانية واسعة، فإن تدقيقاً بسيطاً لدى هذا البعض يحرره من مثل هذه الهواجس التي سرعان ما تتحوّل إلى حسابات انتخابية ومزايدات طائفية.
فالهاجس الأمني لا تتم معالجته بإغلاق الحدود اللبنانية - السورية، كما يتوهم البعض، لأن مثل هذا الإغلاق لا يحلّ بتاتاً مسألة مئات المعابر القائمة على الحدود بين البلدين الشقيقين، والتي يتم استخدامها اليوم من لبنان إلى سوريا وبالعكس. كما لا يحل إغلاق الحدود أبداً مشكلة دخول «المتشددين» من جنسيات عربية وإسلامية إلى لبنان عبر مطار بيروت بشكل عادي، ناهيك عن وسائل وصول أخرى، لا تعدم ابتكارها تنظيمات مثيرة للهواجس والمخاوف...
ولعلها من المفارقات اللافتة ألا تنحصر الهواجس بتيار سياسي محدد بل بأكثر من تيار، غالباً ما يتعارضان في كل أمر تقريباً، فالبعض يخشى من تسلّل متشددين إسلاميين إلى لبنان والآخر يحذر من إرسال النظام السوري «شبيحته» متسترين بستار النازحين...
ثم هل النزوح السوري نزوح دائم أم هو مرتبط بحل الأزمة السورية، تماماً كما كانت الهجرة اللبنانية مرتبطة بالحرب في لبنان والتي طالت عمرها كثيراً لكنها لم تحرم في نهايتها، بل حتى خلال احتدامها، من أن يعود اللبنانيون إلى بيوتهم وقراهم وبلداتهم.
فلا خوف ديموغرافي من النزوح السوري، ولا خوف بالتأكيد من 12 ألف فلسطيني اضطرتهم ظروف طارئة إلى مغادرة مخيماتهم في سوريا، خصوصاً أن ما يتمتع به هؤلاء الفلسطينيون المقيمون في سوريا من حقوق وامتيازات لا يمكن مقارنتها بتلك التي يتمتعون بها في لبنان..
إن الموقف الذي يليق بلبنان ورسالته ودوره هو أن تتحول كل مكوناته إلى بيئات حاضنة للنازحين من سوريا يضمدون جراحهم، ويخففون من آلامهم، وينسجون معهم وشائج الأخوة الإنسانية التي لا تمحوها الأيام.
هكذا يحافظ لبنان على صورته وعلى دوره وعلى رسالته.