أمام أكثر من ألفي مندوب، ووسط متابعة عالمية سياسية وإعلامية ضخمة، افتتح الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره الثامن عشر، الذي دعا فيه الرئيس الصيني المنتهية ولايته هو جينتاو إلى محاربة الفساد، محذراً من «أن الفساد المتفشي في البلاد قد يكون قاضياً للنظام داعياً إلى المزيد من الديموقراطية».
يحذر هو جينتاو من الفساد رغم كل النجاحات التي حققتها الصين في عهده الذي استمر عشر سنوات، نجح خلالها، كما تعترف بذلك الجهات التي تتابع مسيرة الصين خلال تلك الفترة، «في تحويل بلاده إلى ثاني قوة اقتصادية في العالم، حيث جاءت الصين في المركز الثاني عالمياً، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، من حيث الحجم الاقتصادي، إذ بلغ إجمالي الناتج المحلي في العام 2011 ما يربو على 6 تريليون دولار، وبحلول العام 2020 سيتحقق إنجاز مجتمع الحياة الرغيدة». يترافق ذلك مع تلك المعالجة السريعة المجدية لمواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية في العام 2008، عندما «أطلقت الصين حزمة تحفيز قيمتها 640 مليار دولار، مكنت الصين من الانتقال ببراعة من الاعتماد على التصدير إلى تنمية السوق المحلية على خلفية التراجع العالمي في الطلب على السلع الصينية». جاء ذلك مع خطوة صينية جريئة أخرى اعتبرتها العديد من المصادر استثنائية عندما سارعت بكين إلى «التخفيف من لوائحها البيروقراطية وتدخلات الدولة التي عرقلت الاستثمار القادم من الخارج، وسمحت للبلاد بتحقيق مستوى من الانفتاح نادراً ما يوجد لدى الدول الكبرى ذات الكثافة السكانية العالية. وأصبحت الصين الآن ثاني أكبر متلق للاستثمار الأجنبي المباشر في العالم، مع منافسة المنتجات الأجنبية في كل قطاعات الاقتصاد تقريباً».
حتى على مستوى دخل الفرد الصيني لسكان المدن والأرياف، شهد، هو الآخر، حسبما جاء في البيانات الإحصائية التي أصدرتها مصلحة الدولة الصينية قبل أيام من انعقاد المؤتمر الثامن العشر للحزب الشيوعي، «ارتفاعاً متواصلاً خلال فترة الخطة الخمسية الحادية عشرة (2006-2010)، حيث ازداد متوسط الدخل الصافي لسكان الأرياف من حوالى 600 دولار أمريكي في عام 2005 إلى حوالى 1000 دولار أمريكي في العام الماضي بزيادة حقيقية قدرها 8.9 بالمائة على أساس سنوي بعد خصم عوامل ارتفاع الأسعار، متجاوزة نسبتها في السنوات الخمس الأسبق بـ 3.6 نقطة مئوية».
كل هذه الإنجازات لم تمنع الحزب الشيوعي من الاعتراف بعمق الفساد الذي بات يتفشى في صفوفه، ويصل إلى أعلى المراتب القيادية فيه. ففي شهر أكتوبر الماضي، أقدم الحزب على عزل أحد أعضاء مكتبه السياسي بو تشيلاي، بتهمة «إساءة استخدام سلطته وتلقي رشى ضخمة وجرائم أخرى» ويواجه الحزب بالتالي سقوطاً مثيراً لشخصية بارزة هز عملية انتقال القيادة.
ويواجه بو تشيلاي اليوم «اتهامات بالفساد واستغلال السلطة، مما سيفسح المجال لمحاكمته بعدما رفعت حصانته النيابية».
وفي سياق محاربة الفساد ومعاقبة مرتكبيه، باشر الحزب الشيوعي الصيني الحاكم «تحقيقاً داخلياً بشأن مزاعم نشرتها صحيفة نيويورك تايمز أفادت بأن عائلة رئيس الوزراء الصيني ون جيا باو جمعت ما لا يقل عن 2.7 مليار دولار في ثروات سرية». ووفقاً لما نشرته صحيفة (ساوث تشاينا مورننغ بوست) التي تصدر في هونغ كونغ عن مصادر لم تحددها فإن «رئيس الوزراء الصيني هو الذي طلب هذا التحقيق في رسالة بعث بها إلى اللجنة الدائمة للمكتب السياسي وهي أعلى هيئة لاتخاذ القرارات في الحزب الشيوعي الصيني في خطوة على ما يبدو لتبرئة ساحته».
وكانت نيويورك تايمز قد ذكرت أن «يانغ زيون والدة وين جياباو، البالغة من العمر 90 عاماً تملك 120 مليون دولار تستثمرها في شركة صينية للخدمات المالية تدعى (بينغ إن إنشورانس)». وقد أدى ذلك إلى مشادة قضائية حيث نفى، كما تناقلت وكالات الأنباء «محامو أقرباء وين جياباو بعض ما كشفته الصحيفة الأمريكية وهددوا بإطلاق ملاحقات ضدها، مؤكدين أن رئيس الوزراء لم يضطلع أبداً بأي دور في شؤون أفراد عائلته. لكن الصحيفة بدورها أكدت صحة معلوماتها على الرغم من نفي المحامين، مشيرة إلى «أن عائلة رئيس الحكومة الصينية تملك مصالح في مصارف ومجوهرات ومنتجعات سياحية وشركات اتصالات ومشاريع بنى تحتية، وتلجأ أحياناً إلى كيانات خارج البلاد».
وكما يبدو فإن، وكما ذكرت وكالة الصين الجديدة قبل انعقاد المؤتمر، «مسالة الفساد المتفشي بين المسؤولين المحليين والوطنيين تقع في صلب اهتمامات المؤتمر المقبل، الذي سيكون اجتماع في غاية الأهمية في وقت مفصلي تعمل فيه الصين على بناء مجتمع مزدهر نسبياً في جميع المجالات، وفي وقت حاسم حيث تعمق البلاد الإصلاحات والانفتاح، مسرعة عملية تحول نمطها الإنمائي».
تأتي هذه الحملة ضد الفساد في وقت كشفت فيه معلومات صحافية هذه السنة عن «الثروات الطائلة لعائلات بعض القياديين الصينيين من بينهم، ليس رئيس الوزراء وين جياباو فحسب، وإنما الرئيس المقبل للصين في مارس 2013 شي جينبينغ الذي سيكون هو الآخر موضع تحقيق».
وكما هو متداول في الصين اليوم، وينقله خبير السياسة الصينية في جامعة سيتي في هونغ كونغ، جوزف تشينغ، فقد أصبحت «وسائل الإعلام الدولية عنصراً مهماً في الصراع على السلطة من أجل نزع اعتبار قيادي ما، مشيراً إلى أن تضاعف الفضائح يثير غضب الرأي العام ويحمله على التشكيك في قياداته». وهذا ما يجعل من «مسألة الفساد المتفشي بين المسؤولين المحليين والوطنيين قضية تقع في صلب اهتمامات المؤتمر المقبل (18)».
تجدر الإشارة هنا إلى أن الصين هي ثاني تجربة إصلاح في المعسكر الشيوعي، وربما تأخذ بكين طريقاً مختلفاً عن ذلك الذي سلكته موسكو، وشابه الكثير من جوانب العنف والمفاجأة، فربما، كما يقول البعض، يكون « الإصلاح الذي تبنته الصين مختلفاً عن الاتحاد السوفيتي الذي اختار (العلاج بالصدمات) ما أدى إلى الانهيار الاقتصادي. وأن هذا الاعتدال الذي يركز على تلبية احتياجات الشعب الأكثر إلحاحاً وإعطاء أولوية للإصلاحات الاقتصادية على السياسية، يناسب الظروف الوطنية للصين».
من الطبيعي أن تكون على قائمة جدول أعمال المؤتمر الكثير من القضايا ذات الأهمية الإستراتيجية والتي تشكل تحديات مصيرية أمام القيادة الجديدة التي ستنتخب في نهاية أعمال المؤتمر، بعضها يمس الجوانب الاقتصادية وآخر له علاقة بالمسائل السياسية، لكنها تراجعت كي تأتي في المقدمة محاربة الفساد، الذي يدرك القادة الصينيون أكثر من سواهم، أنه ما لم تعالج هذه المشكلة، وتجتث من جذورها، فهي وحدها كفيلة بإشعال النار في كل الإنجازات الأخرى وتحويلها إلى رماد.
ولعل فيما كتبه رئيس تحرير صحيفة (يانهوانغ تشونكيو) يانغ جيشينغ، ونقلت ترجمته صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في تقرير لمراسلها في نيودلهي براكيتي غوبتا الكثير من الصحة حيث قال «نحن ندرك الإنجازات ولكن يحدونا القلق حيال كيفية الحفاظ عليها. إن الكعكة ضخمة جداً، ثاني أكبر كعكة في العالم. لكنها مقسمة بشكل غير عادل. لو لم يتغير النظام، فدائماً ما ستظل هناك حالة من الظلم». ونواة الظلم هي الفساد.