بعد تراجع موجة الانبهار التي سيطرت على عقول من حضر تدشين باكورة إنتاج الجيل القادم من سيارات لكزس اليابانية في البحرين بمواصفاتها الجديدة، والتي تعكس الإبداع والمتانة التي تتمتع به سيارات هذا الجيل، سادت موجة نقاش بين أولئك الحاضرين جوهرها الإعجاب المفرط فيما وصلت إليه اليابان اليوم، والمركز المتقدم الذي تبوأته صناعاتها المختلفة على المستوى العالمي، واستتبع ذلك بعلامة الاستفهام الكبيرة التقليدية المتكررة التي تدور في ذهن كل عربي؛ لماذا اليابان وليس نحن العرب؟
قبل الحديث عما أصبح يعرف باسم «المعجزة اليابانية» ينبغي أن نعرف أن مساحة مجموعة الجزر اليابانية كاملة لا تتجاوز ثلث مساحة جمهورية مصر العربية، وتقترب من 4% من مساحة الولايات المتحدة الأمريكية. وعندما نسقط حصة الجزء الجبلي البركاني منها لا يتبقى أكثر من خمس تلك المساحة صالحاً للزراعة وللاستخدام الاقتصادي. أسوأ من ذلك حرمت الطبيعة اليابان من قطرة النفط لذا تستورده اليابان كي تستهلكه في توليد ثلاثة أرباع حاجتها من الطاقة. واليابان هي الدولة الوحيدة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية شبه مدمرة بقنبلتين نوييتين ألقتهما عليها طائرات الحضارة الأمريكية المنتصرة.
في الستينات وربما حتى العقد السابع من القرن الماضي عرفت اليابان بانخفاض جودة بضائعها مقارنة بتلك القادمة من الغرب، الذي أصبح اليوم وبفضل تلك المعجزة اليابانية أسير الواردات القادمة من طوكيو والمنافسة له في أسواقه المحلية قبل تلك العالمية.
ولا يقتصر الإبداع الياباني كما يتوهم البعض على على قطاع التكنولوجيا أو السيارات والمعدات، نأخذ على سبيل المثال تطوير اليابان الإبداعي، وفي مرحلة مبكرة لصناعة اللؤلؤ والذي يروي قصتها في صيغة طريفة أحد منتديات الإنترنت جاء فيها «اليابان أرضه ضيقة وأهله كثيرون وليست في بلاد اليابان موارد طبيعية ربما كان ماء المحيطات‏، وقد استخرجوا منه السمك واللؤلؤ أما اللؤلؤ فقد اخترعوا له حلاً سريعاً لنموه فبدلاً من أن ينتظروا قواقع اللؤلؤ تنمو فيها حبات اللؤلؤ سنة بعد سنة‏فإنهم وضعوا في داخل محارة اللؤلؤ نوعاً من الكرات الصغيرة المصنوعة من محارات أسماك أمريكية، هذه الحبات الصغيرة تؤلم حيوان اللؤلؤ فيفرز حولها المادة الفضية في سنة وهذا هو اللؤلؤ المزروع وقد كنت أول عربي يرى مزارع ومصـانعـــــ اللؤلؤ سنــــــة 1959 في مـــدينــــة تويـــــا وقد تطورت زراعة اللؤلؤ فهم الآن يتحكمون في حجمه ولونه ودرجة شفافيته ولا يملك حيوان اللؤلؤ إلا أن يطيع وقد ابتكر هذه الطريقة البسيطة العبقرية رجل اسمه ميكو موتو وهو اسم أكبر محلات ومزارع اللؤلؤ في العالم».
لكن من يريد أن يأخذ الصورة في مساحاتها الشمولية بوسعه العودة لعرض الكتاب الذي أصدره موقع «نماء للبحوث والدراسات، الموسوم «المعجزة اليابانية» لمؤلفه سلمان بونعمان، الذي يؤكد أن ما يعرف باسم «المعجزة اليابانبة» ليس نتاج الأوضاع التي خلفتها الحرب الكونية الثانية، بل ولم «تبدأ مع عصر (ميجي) في القرن التاسع عشر، إنما استندت إلى خلفية فكرية عميقة وطويلة بدأت منذ القرن السادس عشر، حيث لدى اليابان مقدمات تاريخية باهرة تشكلت على مهل طوال أربعة قرون سابقة على عصر الميجي، ومعها حركة فكرية وسياسية عميقة تدعو للإصلاح والتغيير، وهكذا لم تشكل إصلاحات الميجي طفرة أو تطوراً مفاجئاً سماه البعض بالمعجزة منقطع الصلة عما سبقه، إنها في الواقع محصلة لتطورات عرفتها اليابان منذ القرن السابع عشر على الأقل، وهي تطورات حققت لليابان خصوصياتها وسماتها المميزة التي تجعلها تختلف عن غيرها من الدول الشرقية، ومن ثم فقد قامت حركة النهوض الياباني على حركية فلسفية وفكرية كثيفة ورصينة ودينامية أدبية خصبة، وليس على مجرد التوسع التقني والإنتاج الصناعي فقط».
في السياق ذاته يسرد حواس محمود في مقالته التي نشرها موقع صحيفة «الاتحاد» الكردستانية مجموعة من الأسباب المنطقية التي يعتقد أنها تقف وراء النجاح الياباني الذي نتحدث عنه، مثل «تقديس العمل وتضخيم الإنتاج، اعتماد مبدأ الكفاءة الجماعية في اتخاذ القرار، التعليم.. إلخ». يتوقف القارئ لتلك المقالة عند عنصريين من تلك القائمة؛ الأول «الافتخار بالانتساب إلى الشركة أو المؤسسة، وهذه سمة هامة في نظام العمل الياباني؛ إذ يتحول العامل أو الموظف إلى جزء لا يتجزأ من المؤسسة التي يعمل بها، ويبقى العامل مستقراً في شركته طالما بقي على قيد الحياة، حيث الرتبة والراتب لا يفارقانه طيلة عمله بالشركة، ولا يوجد نظام النقل، أي نقله من مؤسسة إلى أخرى كما هو الحال في معظم البلدان النامية». والثاني «التوازن بين المصلحة الخاصة ومصلحة الجماعة؛ يقوم نظام العمل الياباني بالدرجة الأولى على المصلحة العامة مع عدم الإضرار بالمصلحة الفردية؛ أي أن مصلحة الشركة هي المحددة لنظام العمل، فالشركة تؤمن قسطاً كبيراً من حاجيات ومتطلبات العاملين لديها، وتعتبر الشركة بالنسبة للعامل مصدر فخر واعتزاز بالانتماء إليها».
على نحو متصل ورد تفسير مكثف لسر نجاح اليابان والوصول إلى ما وصلت إليه بفضل اختيارها، كما جاء في «مدونة اللغة اليابانية»، لمنهج «القوة الناعمة»، حيث يقول المدون «حسن» إن اليابانيين «تعلموا الكثير من سلبيات ماضيهم، وقدموا الاعتذار العلني للشعوب التي أساؤوا إليها، وهم ينتظرون أن تمارس دول كبرى الأسلوب عينه، لكي يتم تصويب مسار التاريخ نحو التاريخ الإنساني، وحل النزاعات الموروثة بالطرق الدبلوماسية وليس بالعنف الدموي، مضيفاً أن قيم الثقافة اليابانية التقليدية ما زالت مستمرة بقوة رغم التبدلات العميقة التي رافقت انتقال المجتمع الياباني من مرحلة الاستخدام المفرط للقوة العسكرية إلى المعجزة اليابانية والمرتبة الثانية في الاقتصاد العلمي. ونجحت اليابان في تجاوز النزعة العسكرية التي تمجد العنف والانتقام والسيطرة من خلال تمسكها بالقوة الناعمة التي ضمنت استقرار المجتمع الياباني وأقامت التوازن بين التراث التقليدي والمعاصرة.
هذا لا يعني إطلاقاً أن المجتمع الياباني مثالياً، فقد أظهر أحد استطلاعات الرأي أن هناك «اتساعاً في فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء في اليابان»، حيث «قال أكثر من 90% من المستجيبين إنهم يشعرون باتساع فجوة الدخل بين الفقراء والأغنياء وتحولها إلى ظاهرة دائمة. هذا على المستوى الاجتماعي، أما على المستوى السياسي فلا تخلو اليابان من مظاهر المعارضة الشعبية للسلطة بما فيها سياسات هذه الأخيرة الخارجية. ففي العام 2007، على سبيل المثال، خرج اليابانيون في مسيرات ضخمة تعترض «وصول المقاتلات الأمريكية إلى البلاد، وسرت موجة احتجاجات واسعة قرب قاعدة كادينا الجوية بجزيرة أوكيناوا جنوب اليابان عندما أرسلت الولايات المتحدة ثماني مقاتلات إضافية من طراز (إف 22) إلى القاعدة».
لكن مقابل كل تلك الاجتهادات، ربما كما يقول البعض وبشكل تبسيطي إن «أسرار النهضة اليابانية‏..‏ التنوير الياباني‏..‏ لا أسرار ولا ألغاز‏..‏ إنما هم أناس رأوا الغرب‏..‏ ودرسوا وحللوا وقرروا‏، وصمموا‏، فكانت ثورتهم علي أنفسهم في كل شيء!!‏»
وفق الله اليابان إلى ما تريد وأعان العرب على الخروج من حالة الاجترار المستمرة للماضي والتشدق به، وليست سيارة «لكزس» أكثر من نموذج حي ملموس لأحد جوانب المعجزة اليابانية.