مواصلة لتفاعلات بعض القراء المهمة مع «ديمقراطية الطوائف»، كتب لي القارئ «سعيد» تعقيباً ركز فيه على فكرة أن «المجتمعات غير المتجانسة، ذات التركيبة المتنوعة اجتماعياً (مثل البحرين) قد تكون الديمقراطية التوافقية هي الأنسب له، لأن مفهوم التوافق الديمقراطي في الأصل غير ديمقراطي، ولكن التوافق يصبح ضرورة لحماية المجتمع من الانهيار والاحتراب وذلك لأن مبدأ التوافق هو الضامن لحقوق الأقليات، خاصة أن اعتماد مبدأ الأغلبية في دولة متعددة المكونات والمذاهب، سيقود -بالتأكيد- إلى أكثرية وأقلية مذهبية، وهذا عادة ما يقود إلى استبداد فئة أو مكون على بقية الفئات أو المكونات الأقل عدداً أو تأثيراً، ولذلك قد تستدعي الدعوة التي أعلنها الشيخ علي سلمان لإنشاء الديمقراطية التوافقية بين الطوائف في البحرين نوعاً من المراجعة والتفكير فيها وحولها وليس رفضها بشكل مطلق. كما إن التعلل بالتجارب التوافقية الفاشلة في التاريخ لرفض هذه الفكرة ليس مقنعاً، إذ يجب التأكيد أن فشل التجارب التوافقية في عدد من الدول، مثل لبنان، نيجيريا، ماليزيا، قبرص هو إخفاق للديمقراطية بشكل عام، وليس إخفاقاً للنظام التوافقي لأن التوافقية المتبعة في تلك البلدان لم تطبق بشكلها الصحيح» انتهى التعقيب.
الحقيقة كما أراها أن الأصل في الديمقراطية أنها حكم الأغلبية في إطار الإرادة الحرة للمجتمع والخيار الحر للأفراد (دون ضغط أو ابتزاز أو ترهيب أو تزييف للوعي)، وهذا النمط من الديمقراطية هو تلخيص لتجربة الديمقراطيات المبكرة في (إنجلترا، فرنسا، أمريكا)، ولكنها تستند أيضاً إلى لوائح حقوق الإنسان والحقوق المدنية وحقوق المرأة والقانون الدولي والتداول السلمي على السلطة، ولكن السؤال؛ هل إن هذا الشكل من الديمقراطية يتواءم مع أوضاعنا بحذافيره؟ هل إننا قادرون حتى لو أردنا ذلك على تطبيقه أو الالتزام به على النحو قد تكون الديمقراطية التوافقية هي الأنسب بالنسبة لأوضاع البلد الحالية وفي ظل الانقسامات والتجاذبات والتوترات السياسية والطائفية، لأن اعتماد مبدأ التوافق بين مكونات المجتمع قد يساعد على خلق بيئة سياسية مستقرة، على أن لا تتحول هذه الدعوة أو تعني في مقاصدها المحاصصة الطائفية أو تقسيم المجتمع إلى كنتونات طائفية مستقلة، فتلك كارثة لا يمكن لبلد صغير مثل البحرين أن يتحملها. فالديمقراطية التوافقية تعني في منابتها الفكرية والسياسية بناء أوسع ائتلاف وطني ممكن من كافة القطاعات المهمة في المجتمع، والاتفاق حول البرنامج والأولويات السياسية للمجتمع وحماية حقوق الأقليات والدفاع عن الحريات العامة والخاصة، والعمل على حقيق التوازن في التمثيل السياسي ولكن في سياق وطني، بإعطاء الكفاءة الأولوية المطلقة، فتكون مقدمة عن الاعتبارات الطائفية. كما إن من إشكاليات النظام التوافقي بصورته المشوَّهة إمكانية وجود ما يعطل القرار الحكومي، فيكون عائقاً أمام تسيير شؤون الدولة (مثلما رأينا في الحالة اللبنانية - الثلث المعطل)، التي اعتمدت الديمقراطية التوافقية بآلية مشوَّهة أدت في النهاية إلى تعميق الانقسام، وجعلت السلطة غير مستقرة والقرار مرتهناً بالتجاذبات الإقليمية، وهذا ما يخشى وقوعه عندنا في النهاية. إن الديمقراطية بصيغتها الغربية قد لا تكون ملائمة تماماً لأوضاعنا، وإن ما قد تحتاجه هو النمط التوافقي الائتلافي بين مكونات المجتمع، وليس استقطاباً بين الحكومة والمعارضة وهذا ما يستلزمه المعنى الأساسي للديمقراطية التوافقية، حيث تتاح للمواطنين فرصة المشاركة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في صنع القرارات، وهو ما يشعرهم في النهاية أنهم شركاء في السلطة وفي اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي وغيره، ولكن دائماً كمواطنين وليسوا كأفراد في طائفة تفصلهم عن الدولة طائفتهم، ويتعاملون معها من خلالها. وبهذا المعنى تكون الديمقراطية في شكلها التوافقي بانية لوحدة المجتمع، فالحكم التوافقي الديمقراطي يمكنه حل الخلافات الكبرى بين فئات المجتمع في إطار الوحدة الوطنية، بخلق ما يكفي من الثقة المتبادلة على مستوى النخبة والجماهير، ولكن يجب أن نتذكر هنا أن الخيار المطروح عندنا حالياً من قبل من يقدم طرح «الديمقراطية التوافقية بين الطوائف» هو انحراف عن الهدف التوحيدي، لأنه يركز على المحاصصة الطائفية وليس على التوافق الوطني، وذلك لأن من ينشد التوافق هو من يعمل على تعزيز الوحدة، ويقبل الحوار بدون شروط، ويقبل بحلول الوسط التي تجمع ولا تفرق، فالطرح الطائفي يعني عملياً سحق إرادة المواطنين.
^ همس..
قال الإمام علي كرم الله وجهه: «مَن أُعجب برأيه ضلّ، ومَن استغنى بعقله زلّ، ومَن تكبّر على الناس ذلّ».