بدأت من تونس عندما أقدم الشاب التونسي محمد البوعزيزي بسكب الزيت على جسده النحيل وإشعال النار فيه كي تلتهمه وتحوله إلى جثة هامدة قبل أن ينتقل لهيبها إلى الجماهير في تونس منددة بحكم زين العابدين بن علي، ولا تهدأ قبل رحيله. تنتشر نيران الاحتجاج على ما هو قائم في المنطقة العربية من تونس كي تصل إلى مصر ومنها إلى ليبيا، ولا تتوقف عند سوريا، بل تصل إلى أقصى الجنوب الغربي عندما تلفح رياحها الملتهبة اليمن.
في البعض من تلك الدول، كما هو الحال في تونس وليبيا ومصر، جاءت تلك الأحداث العنيفة بقوى سياسية جديدة إلى الحكم، فرأينا حزب النهضة في تونس، وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وتحالف قوى سياسية في ليبيا. والبعض الآخر، مثل سوريا، لا يزال الصراع فيها قائماً دون أن تصل الأمور إلى نقطة الحسم المطلوبة.
دورة عنف جديدة بدأت تمس مناطق عربية أخرى كانت حتى وقت قريب ساكنة مثل دولتي الإمارات العربية المتحدة والكويت، حيث أعلنت الأولى عن اكتشافها لخلايا سرية كانت تخطط لعمل سياسي يقود إلى التغيير، وعرفت الكويت صدامات داخلية مسلحة لم تعرفها إلا في حالات استثنائية نادرة منذ أن نالت استقلالها في الستينات من القرن الماضي.
الملفت هو أنه حتى تلك الدول التي مسها التغيير وتوهمنا أن الأمور قد حسمت فيها، مثل تلك التي ذكرناها، بدأت هي الأخرى تدخل في دورة عنف جديدة تعبر بشكل أو بآخر عن عدم قبول من شارك في الدورة الأولى عما آلت إليه الأمور، ويطالب بإعادة تصحيح المسار.
باختصار شديد ما تزال المنطقة العربية غير مستقرة، وتبحث عن طريق مختلف يوصلها إلى نهاية طريق التغيير التي بدأتها القوى التي خرجت مطالبة به.
هذا يقودنا إلى نتيجة منطقية تكاد أن تكون واضحة عند البعض، لكنها ما تزال كما يبدو غامضة عند البعض الآخر، وهي أن هناك قوى مختلفة لم تلب تلك التغييرات مطالبها ولم تشبع أيضاً احتياجاتها، ويمكن تحديد الأبرز منها في النقاط التالية:
1. القوى العالمية؛ مثل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية من أمثال بريطانيا وفرنسا بل وحتى روسيا، وجميعها تمتلك مصالح حيوية تاريخية في المنطقة تعود إلى المرحلة الاستعمارية، وأخرى آسيوية وفدت مؤخراً مثل الصين. هذه القوى وانطلاقاً من مصالحها الذاتية المحضة أصبحت مقتنعة أن المنطقة بحاجة إلى تغيير، وتغيير نوعي يعيد رسم خارطتها السياسية بما يتلاءم والظروف المستجدة. هذا التغيير المطلوب دولياً يلتقي في بعض جوانبه مع القوى الصاعدة المطالبة بالتغيير، لكنه غير قادر على قطع حبل سرته مع القوى القديمة ذات الجذور الراسخة، والتي تصل أعمار البعض منها إلى قرون خلت.
على نحو متصل هناك تناقض، وهو أمر طبيعي، فيما بينها هي الأخرى، مما يعقد الأمور ويجعل من حل معادلة المنطقة والوصول إلى الحلول النهائية مسألة في غاية الصعوبة. وفي هذه التعارضات يكمن تفسير استمرار الأحداث وانتقالها من دورة إلى أخرى، بما فيها تلك التي عرفت التغيير.
2. القوى الإقليمية؛ ولا تقف عند إسرائيل وحدها فحسب، بل يتسع النطاق كي يشمل دولاً مثل تركيا وإيران، وجميعها لها علاقة وثيقة بترتيب الأوضاع في المنطقة العربية أو الشرق الأوسط، إن شئنا توسيع الدائرة السياسية التي نتناولها.
في بعض الجوانب تلتقي مصالح تلك القوى الإقليمية، لكنها تتعارض إلى درجة التناقض في حالات أخرى. ولو قرأنا الأحداث التي تمر بها دولتان هما مصر وسوريا، لبان لنا تضارب مصالح تلك القوى الثلاث بشكل جلي حول النهايات التي ينبغي أن تصل لها الأوضاع في هذين البلدين. ففي مصر هناك استحالة أن تقبل إسرائيل بنظام حكم مصري تسيطر عليه جماعة الإخوان المسلمين، ما لم تحصل على تعهدات صريحة موثقة تضمن بها استمرار الأوضاع على ما كانت عليه أبان حكم الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك.
أما في سوريا فمن الاستحالة أن تقبل طهران بسقوط آخر نظام سياسي عربي حليف لها دون أن تضمن هوية النظام القادم، ولا تختلف المطالب التركية؛ فهي تريد أن تضمن حصتها السياسية في أي تغيير قادم بغض النظر عن انتماءاته السياسية، بما يحقق استراتيجيتها الإقليمية التي لا تنفي الطموحات العثمانية التاريخية القديمة.
3. القوى المحلية؛ هي الأخرى منقسمة على حالها وما تزال تفتش عن الصيغة النهائية التي يمكن أن تكون مقبولة عند الغالبية العظمى من المواطنين. فكما يبدو واضحاً، أن القوى التي وفقت في الإطاحة بالأنظمة القائمة فيها مثل مصر وتونس وليبيا، ما تزال غير قادرة على تثبيت أقدامها في السلطة، ومن ثم فهي تواجه مداً من نمط مختلف يطالبها بالالتزام بتعهداتها التي أعلنت عنها أثناء عمليات التغيير.
ولعل في الشعار الذي رفعته القوى المختلفة مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر “مصر دولة مش عزبة”، فيه كثير من علامات عدم الرضى بما يجري في مصر اليوم. المشهد ذاته يتكرر في تونس عندما ترفض الأحزاب السياسية استئثار حزب النهضة بالسلطة بعد إبعاد الآخرين ممن ساهموا في “ثورة الياسمين”، كما يطلق على الأحداث التونسية، وحرمانهم من المشاركة في الحكم.
وليس الحال في ليبيا بأحسن منه في مصر وتونس، بل ربما عدم نضج القوى السياسية هناك يجعل الخلافات أكثر طفولة وتذبذباً. باختصار شديد، ومن منطلق الأوضاع المحلية، ومن الزاوية التي تنظر من خلالها القوى السياسية العربية للأمور، يبدو أن الأوضاع في المنطقة العربية ما تزال في مراحلها الأولية، وهذا أحد العوامل التي تقود إلى عدم استقرارها.
محصلة كل ذلك هي أن هناك توافقاً موضوعياً بين القوى الثلاث؛ الدولية والإقليمية والمحلية على حاجة المنطقة العربية للتغيير، وضرورة أن يكون ذلك التغيير نوعياً يلبي احتياجات القوى الاجتماعية المحلية الجديدة الصاعدة، ويتفاعل إيجابياً مع المشروعات الإقليمية المنطقية القابلة للتنفيذ، ولا يصطدم باستراتيجيات الدول الأجنبية ذات المصالح الحيوية في المنطقة العربية. ربما يكون الوصول إلى حل صحيح وسريع إلى هذه المعادلة المعقدة ضرب من الخيال، لكن الخطوة الصحيحة المنقذة هي اقتناع جميع القوى المؤثرة في مجرى الصراع، أو الغالبية منها على الأقل بهذا التوافق الموضوعي الذي يفرض أن التغيير هو الخطوة الصحيحة الأولى على طريق إخراج المنطقة من دورات العنف التي باتت تسيطر على تسيير العلاقات السياسية بين أطرافها المتنازعة.
وهناك كثير من المؤشرات التي تؤكد حقيقة حاجة المنطقة للتغيير واللبيب وحده هو الذي تكفيه الإشارة، وهو وحده القادر على الخروج من بحر الصراعات المتلاطم بعد أن يركب السفينة الصحيحة، ويدير دفتها نحو الاتجاه السليم كي يصل بنفسه وبركابها إلى بر الأمان. وهو ما تبحث عنه جميع القوى التي تهمها مصالح المنطقة.
وهناك طرفة تتداول تقول: سأل المدرس تلاميذه عن معنى كلمة “لبيب” فلم يجبه أحد، فأوضح لهم معناها بقوله: “إن اللبيب من الإشارة يفهم”، وسألهم مرة ثانية: من هو اللبيب؟ فأحاب أحد التلاميذ: هو الأخرس يا أستاذ.
ونأمل أن لا يكون اللبيب العربي أخرساً كما جاء في شرح ذلك التلميذ.