«بدأ العد التنازلي وباتت ساعات قليلة تفصل بين مؤتمر تزمع إسرائيل عقده في مدينة القدس لطرح قضية من وصفتهم باللاجئين اليهود من بلدان عربية بعد تأسيس الدولة في عام 1948، والموعد المحدد لعقد المؤتمر في 10 سبتمبر الجاري «اليوم». وتهدف إسرائيل من خلال ذلك إلى المطالبة بتعويضات عن ممتلكات خسرها اليهود في البلدان العربية التي «هُجروا» منها. فقد أعلنت إسرائيل على لسان نائب وزير الخارجية داني أيالون عن إطلاق ما وصفته بحملة توعية دولية بحقوق «اللاجئين اليهود» من البلدان العربية إلى إسرائيل تحت شعار «أنا لاجئ يهودي». وتهدف الحملة إلى الحصول على تعويضات لليهود الذين «أجبروا» على مغادرة البلدان العربية». (هذا ما جاء في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية). وتضيف الصحيفة أن الحملة تنصب في سياق نشاط وزارة الخارجية الإسرائيلية في التصدي لملف اللاجئين الفلسطينيين، الذين يزمعون إنتاج فيلم يحمل عنوان «القصة الحقيقية للاجئين»، يتناول هذه القضية من خلال التطرق للذكرى الـ 60 لتأسيس وكالة الغوث الدولية «أونروا». وتحمّل «يديعوت أحرونوت» العرب والفلسطينيين مسؤولية عدم حل مشكلة اللاجئين حتى الآن، مشيرة إلى أن الفلسطينيين وحدهم من يتوارث اللجوء ويرفضون التوطين. أما المرحلة الثانية من حملة «أنا لاجئ يهودي» فستتوج بعقد مؤتمر دولي في القدس في 10 سبتمبر الجاري «اليوم»، تحت رعاية وإشراف وزارتي الخارجية وشؤون المتقاعدين الإسرائيليتين، بالتنسيق مع المؤتمر اليهودي العالمي».
إلى هنا ينتهي المقتطف المطول الذي نقلته من موقع «روسيا اليوم (RT)»، والذي كما يبدو، انفرد ذلك الموقع بنشره، لكن في أسفل الصفحة. لم تتناقل الخبر، وهو أمر يدعو للاستغراب، مواقع عالمية مثل موقع هيئة الإذاعة البريطانية، او « سي إن إن» الأمريكية، بل ولا حتى الموقع الإخباري الشامل للمحرك «غوغل».
على كل حال ليس هذا هو المهم، فما هو أهم من كل ذلك هو فهم الدوافع والأهداف التي تشجع إسرائيل على عقد مثل هذا المؤتمر، والسبب الذي يدفعها لعقده في هذا الوقت.
على صعيد الزمان، ربما توفر هذه المرحلة أفضل توقيت لإطلاق مثل هذا النشاط الإعلامي، فالعرب، وخاصة الدول المتاخمة لإسرائيل، وذات الثقل في موازين قوى الصراع العربي الإسرائيلي، مثل مصر وسوريا، منغمسة في معالجة قضاياها الداخلية، حتى على الصعيد الإعلامي، ومن ثم فمن غير المتوقع أن تلتفت نحو ذلك الصراع كي تعطيه الاهتمام الذي يستحقه، دع عنك رصد الموازنات التي تحتاجها مواجهته. يشمل ذلك أيضاً الشق الفلسطيني في الصراع الذي يعاني هو الآخر ذاتيا من تفاقم النزاعات بين الدولة في غزة والسلطة في الضفة، والمهدد بتشظ من نوع جديد، مختلف نوعيا عن أي شكل من أشكال الانقسام الذي عرفته الثورة الفلسطينية منذ انطلاقها في منتصف الستينات في القرن الماضي. فهناك من يلوح ببتر غزة من أي كيان فلسطيني محتمل، وهو امر، رغم صعوبة تنفيذه، لكنه اليوم سيف مسلط على رقبة الشعب الفلسطيني، كي ينهك قواه، ويحول دون التفاته نحو قضية مثل تلك التي يثيرها ذلك المؤتمر الصهيوني، خاصة أن هناك سوابق عربية مماثلة تدعو للتشاؤم، ليس تقسيم السودان سوى واحدة حديثة منها.
أما على صعيد الأهداف، فترمي تل أبيب، من وراء عقد تلك الفعالية إلى تحقيق الأهداف الإستراتيجية التالية:
1- خلط الأوراق، بعد تزويرها، حيث تجري المساواة بين نوعين من «المهاجرين»، الأول هو صاحب حق اعترفت به المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، والثاني مغتصب، تدينه، وتدين مؤسساته القوى العالمية، والذي هو من تصفه تل أبيب «بالمهجرين اليهود». هذه المساواة الباطلة، تتيح لإسرائيل مزجها بمطالبات أخرى، رفضها العالم، وتمنحها حقا مزيفا، في مساواة باطلة بين الجلاد والضحية.
2- استحضار حالة «المظلومية» التي لم تكف إسرائيل عن الاستفادة منها، من خلال تضخيم، وفي حالات كثيرة اختلاق ما تطلق عليه أجهزة الإعلام الصهيوني «مذابح الشتات» التي تعرض لها اليهود في القرنين اللذين سبقا اغتصاب العصابات الصهيونية فلسطين، وتأسيس دولتهم فوق التراب الفلسطيني، الأمر الذي يتيح لهم المطالبة بحقوق باطلة، مبنية، كما ورد في الخبر، على إرغام اليهود القاطنين في الدول العربية، على الهجرة إلى إسرائيل. هذا الاستحضار، في حال نجاحه، يفتح أمام إسرائيل أبواباً سياسية أخرى، تستطيع من خلال النفاذ منها تحقيق مجموعة أخرى من المكاسب، على تلك الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلتها، وخصوصا في حرب يونيو 1967.
3- إعادة عقارب الساعة للوراء، من خلال جر مواقع الصراع من حالتها الفلسطينية الإسرائيلية القائمة، إلى الحالة العربية الإسرائيلية التاريخية. فقد حاصرت الثورة الفلسطينية، بعد نجاحها في إقامة دولتها، بغض النظر عن حجم تلك الدولة والصلاحيات المحدودة التي تتمتع بها إسرائيل في زاوية ضيقة، تريد هذه الأخيرة الانفلات من أسرها، خاصة بعد النجاح الذي حققته القضية الفلسطينية قبل عامين، بقبولها كعضو كامل الصلاحيات في الأمم المتحدة، وهو مكسب، حاولت إسرائيل إجهاضه، وجيرت كل علاقاتها الدولية للحيلولة دونه. ليس القصد هنا القفز فوق الصراع العربي الإسرائيلي، بقدر ما كشف نوايا تل أبيب، في إخفاء الشق الرئيس منه، وهو صراعها الأزلي مع الفلسطينيين.
4- الانتقال من حالة الدفاع التي تعيشها إسرائيل اليوم، خاصة بعد أن فقدت الكثير من مصداقيتها التي روجت لها منذ تأسيس تلك الدولة، والقائمة على كونها الدولة الصغيرة المحدودة الموارد المهددة من قبل جيرانها العرب الذين يعملون على إلقائها في البحر. فقد دحضت الانتفاضة الفلسطينية، التي عرفها العالم بأنها ثورة الحجارة، تلك الأكاذيب. وأرغمت آلة الإعلام الصهيوني على الانسحاب من مواقع الهجوم إلى خنادق الدفاع، وهو ما تحاول تل أبيب اليوم، أن تعكسه، واضعة عينيها مرة أخرى على مواقع الهجوم. فمن غير المستبعد أن تلحق ذلك المؤتمر، بمطالبات تعويض لأولئك المهجرين، فينحرف الصراع عن مساره الصحيح، المرتكز على مطالب فلسطينية بحق شرعي تاريخي في الأراضي المحتلة، إلى «مناشدات يهودية باطلة» بتعويضات عما فقدته منذ ما يزيد على نصف قرن. يتسق مع ذلك، شعار الفعالية «أنا لاجئ يهودي»، الذي تحاول أن تستبق به إسرائيل الفيلم الفلسطيني «القصة الحقيقية للاجئين» الذي هو قيد الإنتاج اليوم.
إذا «أنا لاجئ يهودي» مقابل «القصة الحقيقية للاجئين»، والغلبة في السباق لن يكون فقط لمن له حق، إذ يمكننا أيضاً القول أنه «ما ضاع باطل وراءه مطالب»، وهناك حالات كثيرة، ليس تأسيس دولة إسرائيل سوى أحد الشواهد عليها، وجدنا ضياع الحق من صاحبه، الذي تراخى في التمسك به، أو المطالبة من أجل نيله، والعكس صحيح، فكم من مغتصب، مثل إسرائيل، نجح في الاغتصاب، والاحتفاظ بما اغتصبه، لأنه طالب زوراً به، وجاهد بخبث من أجل نيله، ولم يكف عن العمل من أجل الاحتفاظ به