نكمل في الجزء الثاني من المقال حديثنا عن أهمية دعم المؤسسات المتوسطة والصغيرة، تلك الأهمية التي باتت تحتلها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الاقتصادات الحديثة، والاهتمام المرافق لها، الذي أصبحت تحظى به في صفوف صناع القرار، بل وحتى المؤسسات ذات العلاقة المباشرة بها، مثل الحاضنات والممولين، لا يعني أنها لا تواجه الكثير من المشكلات الخاصة بها، والتي ما تزال تشكل عقبات حقيقية، تحول دون نمو مثل المنشآت الصغيرة والمتوسطة، كي تصل إلى المواقع التي تستحقها. ويمكن النظر إلى تلك المشاكل، من أكثر من مدخل، ينطلق من طبيعة تلك المؤسسات، أو طبيعة إنتاجها، لكننا، كي نعالجها بشكل شمولي، سنضع تلك العقبات في خانتين رئيستين: الأولى موضوعية والأخرى ذاتية. فعلى الصعيد الموضوعي تواجه المنشآت المتوسطة والصغيرة مجموعة من التحديات، وتعيق تطورها مجموعة أخرى من الصعوبات التي يمكن حصر الأهم من بينها في النقاط التالية:
1- تدني الوعي المجتمعي بدور وأهمية، بل وربما في بعض الحالات جدوى تلك المنشآت، إذ ما يزال يسيطر على ذهنية السلوك المجتمعي ذي العلاقة بها سطوة المؤسسات الكبيرة التقليدية، التي تواصل احتلالها لمواقع الأولويات في التخطيط الاقتصادي. خطورة هذا الوعي أنه ما يزال راسخاً في أذهان من يمسك بإدارات صنع القرار، ومن ثم لا يولي المنشآت الصغيرة والمتوسطة الاهتمام الذي تستحقه، وتحجبه عنها جدران سميكة عازلة تحول دون حصول التفاعل الإيجابي المطلوب بين تلك المنشآت وأصحاب القرار. المطلوب هنا نقل الوعي من درجاته الدنيا التي ما يزال متشبثاً بها، والتي لا تتجاوز حديث الإعجاب والتشجيع، إلى تلك العليا التي تبلغ مستوى الانخراط، وتصل إلى درجة المشاركة في التنفيذ.
2- آليات السوق وعلاقات تسييرها، فما تزال تلك الآليات محكومة، بالإضافة إلى سيطرة التشريعات غير الملائمة لأنشطة المنشآت الصغيرة والمتوسطة، بذهنية المؤسسات الكبيرة والعملاقة، مما يضيق من سعة الفتحة التي تبيح لتلك المنشآت اختراق تلك السوق، كي تتمكن من فرض حضورها على المتعاملين فيها، سواء من قبل النشطاء الداخليين في تلك السوق، أو أولئك القادمين إليها من خارجها، كي تتجاوز كل ما من شأنه حصر المنشآت الصغيرة والمتوسطة في المحيط الخارجي من تلك السوق، وتقييد حركتها في نطاق ضيق من ذلك المحيط المهمش أصلاً.
3- قصور التشريعات، فحتى اليوم، ورغم تزايد الحديث، المدعوم بالأرقام والحقائق، عن أهمية هذا النوع من المنشآت الاقتصادية، لكن التشريعات والقوانين والأنظمة، ما تزال غير قادرة على مواكبة نمو تلك المؤسسات وحضورها في الاقتصاد الوطني، بالسرعة التي تحتاجها. وهنا ينبغي التمييز بين التشريعات النمطية التي تقف عند التعريفات والتصنيفات، والتي لا تعدو كونها قريبة من الاعتراف بحضور تلك المؤسسات، وبين تلك الإيجابية المبادرة التي تشجع قوى المجتمع على النزوح من الأشكال التقليدية التي تحصر نفسها في المؤسسات الكبيرة والعملاقة، كي تلتفت نحو المتوسطة والصغيرة، فتضع الأسس السليمة التي تنظم العلاقة بين تلك المؤسسات والجهات التي ترعاها، أو تمول مشروعاتها، أو تتعهدها كي توفر لها عوامل الاستمرار والنمو والتطور في آن واحد.
4- عجز التمويل، وهذه من أهم المشكلات التي تشير إليها العديد من الدراسات الجادة التي تناولت موضوع المنشآت الصغيرة والمتوسطة بالمعالجة، عند بحثها للعقبات التي تحول دون ازدهارها، إذ يعتبرها الكثيرون من “بين أخطر المشاكل التي تواجه أصحاب المشروعات الجديدة وتحد من الرغبة في الاستثمار، نجد مشكلة تكاليف التمويل المصرفي المتمثلة في الفوائد المسبقة وتكاليف أخرى سواء كانت رسمية أو غير رسمية. كما إن قرارات البنك للتمويل مرتبطة أساساً بالضمانات قبل أي اعتبار آخر”. وتعتبر إطروحة “سياسات تمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الجزائر” التي نال معدها يوسف قريشي دكتوراة دولة في العلوم الاقتصادية، من المراجع المهمة التي ناقشت هذه المسألة بشكل مستفيض، وعلمي.
5- غياب الحاضنات الملائمة المتخصصة القادرة على فهم أسس بناء وآليات تمويل، وطرق إدارة، وبرامج تشجيع، المنشآت الصغيرة والمتوسطة. هذه الحاضنات ليست، كما قد يتبادر إلى أذهان البعض منا، إدارات معزولة بقدر ما هي منظمات تحكمها شبكات متطورة تنظم العلاقات فيما بينها، فتبدأ بالجامعات ومؤسسات البحث العلمي، وتمتد كي تتعامل مع شركات التسويق بل وحتى التصدير، بعد أن تنتشر كي تصل إلى المؤسسات التمويلية التي أصبحت تعرف اليوم بالرأسمال الجريء “Venture Capital”. وهذا الأخير من أهم العناصر المهمة في معادلة تطوير دور المنشآت الصغيرة والمتوسطة وتعزيز دورها في الاقتصاد الوطني. من المعيقات والعقبات الموضوعية ننتقل كي نصل إلى تلك الذاتية التي هي الأخرى تمثل تحديات لا يمكن الاستهانة بها، ومن الخطأ إهمالها في أي مشروع يسعى إلى انتشال المنشآت الصغيرة والمتوسطة من واقعها الحالي غير اللائق بها، إلى ذلك المتألق الذي تحلم به، والتي يمكن إيجاز الأهم منها في النقاط المحورية التالية:
1- تدني الوعي الذاتي لأصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، الذي يضاعف من سلبيات ذلك الوعي الموضوعي الذي أشرنا له. إذ ما يزال وعي أصحاب تلك المشروعات قاصراً على فهم متطلباتها، ومحدوداً في إطارها الضيق، ومن ثم التعامل معها وفقاً لتلك المتطلبات البعيدة كل البعد والمختلفة جملة وتفصيلاً، في جوهرها، عن المؤسسات الأخرى الكبيرة، عامة كانت تلك المؤسسات أم عائلية. الأمر هنا، وكي تدار المنشأة الصغيرة أو المتوسطة، بذهنية متقدة وديناميكية، وهما من أهم عناصر إدارة نجاح مثل هذه المنشآت، ينبغي لمن يقوم عليها أن ينسلخ تماماً، وبقرار ذاتي واع، من آليات المؤسسات التقليدية الكبيرة، كي ينتقل إلى تلك التي نتحدث عنها. هذا الانتقال ليس قراراً إدارياً فحسب، وإنما هو قناعة وسلوك على حد سواء. 2- العجز الإداري، وهو الآخر داء تشكو منه المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وخصوصاً تلك العاملة في البلدان النامية مثل الدول العربية. الأمر هنا لا ينحصر فيما يمكن أن نطلق عليه التسيير “Administration” بل ينبغي أن يرقى إلى ما أعلى من ذلك والمقصود به الإدارة الشاملة “Management”. التي يقع على عاتقها، وضع السياسات العامة، بما في ذلك التخطيط، الذي لا ينبغي أن يقتصر على الإنتاج أو توفير الخدمات، بل يمتد كي يصل إلى تحديد قنوات التمويل، وتأسيس إدارات البحث والتطوير، ووضع سياسات النمو والتوسع، وتحديد إستراتيجيات التسوق والانتشار. هذه العمليات المعقدة المتداخلة، تتضارب مع تلك التقليدية من جهة، وترفض في آن ذهنية الإدارة الفردية المشخصنة المتغطرسة التي تستمد جذورها في منطقتنا العربية من جذورها القبلية.
3- الانغلاق ونبذ التكامل مع الآخرين، فمن أهم مقومات نجاح المنشآت الصغيرة والمتوسطة، هي قدرتها على البحث عن حل، وإيجاد فرص التكامل “Synergies” مع الأخريات من المنشآت المشابهة أو الشقيقة. فبحكم حجمها يصعب على تلك المؤسسات الوقوف في وجه منافساتها من الشركات الكبيرة والعملاقة التي تنشط في الحقل ذاته، ومن ثم فإن فرصتها الوحيدة لتقوية نفسها هي البحث عن مجالات التكامل التي نتحدث عنها، والتي تكمن في صلبها عناصر القوة التي تحتاج لها تلك المنشآت.