سقوط بعض الأنظمة ضمن موجة ما سمي بـ «الربيع العربي» أوجد حالة من الفراغ السياسي تم ملؤه فوراً بأحزاب وتيارات الإسلام السياسي لأنها تقريباً القوة الوحيدة المنظمة والمعبأة تحت الأرض لملء الفراغ- بغض النظر عن مدى كفاءتها في إدارة دواليب الدولة وقلة الخبرة وغلبة الأيديولوجيا على الرؤية الواقعية في إدارة الدولة.
ونتيجة وجود طبقة سياسية غير مهيأة للحكم وغير ناضجة فكرياً وسياسياً، سقط الجميع في حالة التجاذب والمواجهة، وأدى ذلك خلال العامين الماضيين إلى نوع من العجز في ضمان التحول من مجتمع التسلط إلى مجتمع الحرية والديمقراطية. وهذا ما ميز الحالة الجديدة التي أصبحت ترتبط بالمصالح الحزبية والسياسية الضيقة أكثر من ارتباطها برؤية شاملة لبناء الديمقراطية، بما أفضى إلى تعميق الانقسام الاجتماعي وإلى زعزعة الاقتصاد الوطني خاصة بعد تمكين سياسيين فقراء في التجربة والمعرفة والقدرة على تسيير الإدارة الحكومية. وزاد من سوء الوضع هروب الاستثمار الوطني نتيجة الخوف وعدم الوضوح.
وقد بدا واضحاً أن تيار الإسلام السياسي- وهو القوة الرئيسة التي تتحكم في دواليب السلطة الجديدة- تتعجل قطف ثمار الوضع الجديد، بالرغم من كونها لحقت بقطار الانتفاضات ولم تقدها ولم تشارك فيها إلا متأخرة، ومن الواضح أنها اليوم تريد السيطرة على المجتمع، وعلى مقدرات الدولة، بسرعة لتطبق عليها مستنجدة في بعض الأحيان بالأساليب القديمة في التعاطي مع الخصوم السياسيين، مستفيدة من المشاعر الدينية ومن عمق الوازع الديني لدى المواطنين، فكان من الطبيعي أن يحدث الانقسام الذي بات يشق المجتمع السياسي على نحو غير مسبوق، ظهر ذلك في الموقف والقرارات والإجراءات والتظاهرات مما أصاب المجتمع بحالة من الإرهاق غير المسبوق، هذا المجتمع الذي لم يثر لأهداف أيديولوجية أو لتمكين التيارات الدينية من الحكم، وإنما لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية، فاكتشف أن النخبة السياسية مشغولة بتصفية الحسابات الأيديولوجية والصراع على السلطة فقط.
ويرافق ذلك عدم وضوح في البرامج والرؤية السياسية خصوصاً أن هذه التيارات – رغم انتمائها للإسلام السياسي - غير متجانسة في الرؤية والفكر والخيارات، لأنها تضم جماعات تسعى لتغيير مجتمعاتها عن طريق اشتقاق أفكارها وبرامجها من الإسلام، فهي تتفق على القيمة الإيجابية للإسلام، وتريد تحويل إطار المرجعية في الحياة العامة إلى مرجعية يكون فيها الإسلام، بتفسيراته المختلفة، قوة رئيسة في تشكيل هذه الحياة، ولكن عندما يُسأل الإسلاميون عن الأنموذج الذي يريدون احتذاءه فإنهم يختلفون: فهناك من يشير إلى التجربة التركية، حيث الدولة علمانية، والنظام إسلامي علماني معتدل. وهناك من يشير إلى تجربةُ الأحزاب الديمقراطية المسيحية بأوروبا، التي نشأت بعد الحرب الثانية، على أنقاض هزيمة الفاشية والنازية، إلا أن أغلب هؤلاء يحيلون إلى مرجعية عامة غير محددة، وذلك بالاكتفاء بالإحالة على أن الإسلام هو الحل، وهذا الوضع الغائم وراء جانب من التخبط والتردد الذي بدا في الحالة المصرية على سبيل المثال، حيث مازلنا نتذكر أنه عندما بدأ المسار السياسي الجديد بعد سقوط النظام السابق يتخذ منحاه الطبيعي، جاء التيار الإسلامي لينحرف به نحو أفق آخر، فعندما كان الشباب ينادون بخروج الجيش من اللعبة كان الإخوان يتفاوضون مع العسكر من تحت الطاولة، وعندما دخل الإخوان على الخط السياسي وعدوا بأنهم لن يقدموا مرشحاً للرئاسة، ولكنهم لم يفوا بوعدهم وبوعود أخرى عديدة، ففقدوا بذلك جانباً من المصداقية السياسية تجاه الجمهور السياسي الذي يخالفهم الرأي والفكر، وخصوصاً الشباب منهم، ثم بدأت موجة الأخطاء المتكررة باتخاذ قرارات ارتجالية والعودة عنها في بعض الأحيان في نفس اليوم، وهذا نموذج واحد للتخبط الذي أسهم في إشاعة حالة من الفوضى بدلاً من الاستقرار، والشك بدلاً من الثقة، والخوف بدلاً من الاطمئنان، والانفرادية بدلاً من الشراكة، بما يكاد يعيدنا إلى نقطة البداية، أو إلى إعادة إنتاج نفس الأسئلة ونفس الاستجابات التي أوقعت العديد من البلدان العربية في دائرة الاستبداد والصراع، ويخشى أن تعيدنا اليوم إلى نفس الدائرة، فيكون التاريخ وكأنه يدور في حلقة مفرغة.