في ضوء كل ما تقدم، يكتشف المتابع للتطورات التي شهدها الصراع العربي الإسرائيلي، منذ تأسيس الكيان الصهيوني في أعقاب الحرب الكونية الثانية، مروراً بالحروب التي اندلعت بينه وبين الدول العربية، وما رافقها من محادثات مباشرة وغير مباشرة، شاملة وثنائية، وصولاً إلى تأسيس السلطة الفلسطينية في أعقاب ماراثون «أوسلو»، وتمحوره في إطاره الأخير الذي كان من نتائجه الحروب المتكررة التي لم تتوقف آلة الحرب الإسرائيلية عن شنها، تارة ضد الأراضي التي تحت سيطرة تلك السلطة، وتارات أخرى ضد غزة ... يكتشف ذلك المتابع أن العرب، يقفون اليوم أمام امتحان مختلف في الجوهر، وإن بدا غير مغاير لتلك التي وضعتهم أمامها كل تلك التطورات، وذلك لسببين أساسين.
أولهما أنه يأتي في ظروف مختلفة تماماً عن تلك التي عاشها الصراع في مختلف مراحله، نظراً لإفرازات ما عرف باسم «الربيع العربي»، والذي مس دولاً عربية مهمة من مستوى مصر، التي تحظى بثقلها الذاتي في ذلك الصراع، ولها حدودها المتاخمة لحدوده، وأدى إلى تغييرات جوهرية في طبيعة السلطة، وانتمائها الفكري، وتحالفاتها الإقليمية والدولية، الأمر الذي يضيف عوامل جديدة، غير مألوفة، في موازين القوى في ذلك الصراع، وهي ليست في صالح ذلك العدو.
أما ثانيهما فهو أن الحليف الاستراتيجي التاريخي للكيان الصهيوني، وهي الدول الغربية، عرفت هي الأخرى تطورات جوهرية مست صلبها، وانعكست سلباً على الثقل الدولي الذي كانت تتمتع به انتهاء الحرب العالمية الثانية، وازداد وزناً منذ الثمانينات عندما تهاوت الكتلة السوفياتية، وتدحرج بعض دولها كي تنظم إلى محور الدول الغربية، وتفاقمت أوضاعها سوءا إثر الأزمة المالية البنيوية التي هزت أساسات أركان المنظومة الرأسمالية، وفي القلب منها واشنطن، وأضعفت عضلاتها الضاربة، وعلى وجه التحديد تلك التي كانت تتيح لها العربدة في مناطق الصراع الدولية من أمثال الشرق الأوسط. فقدت تل أبيب، بفضل تلك التطورات الكثير من عناصر القوة التي كانت تمدها بها، بشكل مباشر أو غير مباشره، وشائج ذلك التحالف.
هذان العاملان، هما اللذان، يضعان الكتلة العربية اليوم، أمام الامتحان الذي نصفة بالجدية، والذي كما في سائر الاختبارات المدرسية، يحتاج من يجلس لها أن يعد نفسه بشكل علمي صحيح، إن هو شاء تجاوزها، ونيل الدرجات العالية فيها.
أول تلك الاستعدادات هو تحديد كل دولة عربية على حدة، بعيداً عن أية مزايدات سياسية، أو لغة عكاظية (نسبة إلى سوق عكاظ)، عتبة مرتبة الصراع العربي الإسرائيلي في سلم أولويات المهمات القطرية التي تسعى لتحقيقها. أهمية هذا التحديد ليست نظرية، ولكنها سترسم بشكل دقيق ومحدد الخانة التي تمثلها تلك الدولة على رقعة شطرنج ذلك الصراع، الأمر الذي سيقود، وبشكل تلقائي إلى عملية فرز طبيعية وعلمية، تستمد مدخلاتها من قنوات سليمة، إلى قياس موازين القوى بشكل دقيق أولاً، ويجعل طرفي الصراع المباشرين اليوم: الفلسطينيين والإسرائيليين، على حد سواء، قادرين على حساب موازين القوى على نحو دقيق، في ضوء تقدير كل منهما لها بشكل مستقل.
مثل ذلك سيزيل الكثير من الأوهام التي ما تزال تعشعش في أذهان القيادات الفلسطينية من جانب، وتضعها أمام الحقائق الصماء التي تحتاجها تلك القيادات، إن هي أرادت أن تلج حروبها مع ذلك العدو، بعد أن تلغي من قائمة مواردها الذاتية تلك التمنيات القائمة على تلك الأوهام، ويتتبع ذلك وضع الأمور في نصابها.
ثاني تلك الاستعدادات وعلى المستوى الداخلي العربي، من الطبيعي أن يستتبع تحديد عتبات سلم الأولويات من قبل كل دولة عربية على حدة، تحديد المسؤوليات الملقاة على عاتق كل منها في حال قرارها المشاركة في ذلك الصراع، ومن ثم تبرز متطلبات التهيؤ، لامتلاك القدرات التي تؤهل للقيام بالالتزامات الناجمة عن تحديد المسؤوليات، على افتراض أن أياً من تلك الدول، سيتحمل شيئاً من تلك المسؤولية، التي تفرضها عليه انتماءاته المختلفة، من قومية، وإيدلوجية، وعقيدية، بل وحتى الدينية منها. سوف يزيح هذا التحديد من على كاهل جميع تلك الدول العربية اضطرارها للاستمرار في تشدقاتها الإعلامية التي تحاول من خلالها إثبات قبولها بالتزامات لا تمتلك الرغبة في التقيد بها، ولا تستطيع، حتى إشهار عدم قدرتها الذاتية على الإيفاء بشروطها، والتزاماتها. سوف يزيل ذلك التحديد أيضاً، كل طلاءات التجميل التي تستخدمها الأنظمة العربية لتحسين صورتها الداخلية في نظر شعوبها، أو للتخلص من مستحقات وطنية تحت مبررات إثقال التزاماتها الواهية في ذلك الصراع.
ثالث تلك الاستعدادات، هو البدء، في ضوء تحديد موقع العتبة في سلم الأولويات، ومستوى المسؤوليات، في وضع البرامج واتخاذ الإجراءات التي من شأنها تأهيل الدولة العربية المعنية، وعلى المستوى الذاتي، كي تمارس دورها الذي اختارته في ميدان ذلك الصراع، بعيداً عن أية ادعاءات عنترية (نسبة إلى عنترة بن شداد)، ودون حاجة إلى مهاترات إعلامية.
مثل هذه الاستعدادات ستضع العرب على عتبات بداية الطريق السليمة التي ستقود العرب قبل أن يجلسوا إلى طاولة الامتحان الجديد الذي نشير إليه، والقائم أساساً على المصارحة مع الذات والشفافية مع الآخرين، نحو الطريق الصحيحة التي سيكتشفون، منطقياً وموضوعياً، أن قطعها حتى نهاياتها يقتضي إعادة النظر بتمعن وجدية، في أوضاعهم الذاتية القائمة.
على المستوى السياسي، هناك حاجة ماسة إلى إصلاح سياسي على المستويين القطري الضيق، والإقليمي الواسع. فكل دولة مطالبة أن تبادر على حدة إلى معالجة أوضاعها السياسية التي لم تعد تناسب العصر الذي نعيشه، وبحاجة إلى مراجعة جادة وغربلة صادقة، تهيئ كل منها للتخلص من الأزمات المتلاحقة المتكررة التي تحرمها، حتى وإن هي شاءت، من أية مساهمة جادة ومجدية في الصراع العربي الإسرائيلي. يستتبع ذلك، الاتجاه نحو الدائرة الأكثر اتساعاً وهي منظومة العلاقات العربية، وفي القلب منها جامعة الدول العربية، والتي هي الأخرى، لم تعد قادرة، إن هي فشلت في إعادة هيكلة نفسها وفق معايير المنظمات الإقليمية المعاصرة الكفؤة، على الإسهام الإيجابي لصالح الطرف العربي في ذلك الصراع.
ومن الطبيعي، استحالة تشييد بناء سياسي محكم، وقابل للصمود في أي من معارك ذلك الصراع، بمعزل عن بنية اقتصاديه راسخة، قادرة على توفير كميات «الأوكسجين» الذي يوفر البيئة الصالحة التي يحتاجها النظام في تنفسه أثناء ضلوعه في ذلك الصراع. منطق الصراعات يؤكد أن اقتصاداً هشاً يشل حركة أي نظم سياسي يستند إليه، ويحوله إلى مجموعة من الهياكل الإدارية التي تسيج جثة هامدة، تهيئ نفسها للتحلل والاندثار، وليس الحياة وممارسة الدور المقدر لها القيام به.
وطالما أن اللغة الوحيدة التي يتقنها العدو الصهيوني، كما نشاهد اليوم في غزة، هي اللغة العسكرية، فليس هناك من خيار آخر أمام الدول العربية منفردة، أو مجتمعة، سوى تعزيز قدراتها العسكرية، وهذا هو العنصر الثالث في برنامج التأهيل لذلك الامتحان الجديد. وهنا ينبغي تجاوز المفهوم الخاطئ للتعزيز الذي ساد سلوك الحكومات العربية على امتداد الستين سنة الماضية من حياة ذلك الصراع، والقائم على تكديس الأسلحة واقتناء الأعلى سعراً منها. فالقدرات العسكرية اليوم هي منظومات شاملة، تتكامل فيها المعدات مع البرمجيات التي يسيرها الإنسان قبل الآلة.
امتحان جديد يدخله العرب، وكما يقول المثل «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان» وعلى العرب أن يختاروا بين نيل الإكرام وتلقي الإهانة.