أن يتحول اليساري إلى إسلامي أصولي ويتحول القومي العروبي إلى قطري انعزالي، أمر يمكن أن نتفهمه ضمن التحولات الفكرية أو الأيديولوجية في سياق التطور أو التحول الذي قد يصيب الأفراد والجماعات الحزبية، ولكن أن يتحول الماركسي اللينيني الأممي إلى طائفي ضيق الأفق والرؤية، وأن يتحول البعثي الذي أمضى نصف حياته ينظر للوحدة العربية إلى طائفي مهووس بالطائفية، فتلك مفارقة مدهشة، شهدنا بعض فصولها المؤلمة في التراجع عن الثوابت العربية وحتى عن القيم والأعراف في الحياة السياسية..
تلك مفارقة تجعلنا نشك حتى في أصالة الفكر الذي يدعي بعض هؤلاء الارتباط به أو تبنيه، وتجعلنا لا نكاد نجد تفسيراً منطقياً وعقلانياً إلا ضمن منظور النفاق والانتهازية السياسية، لا أكثر ولا أقل. هذه المفارقة في جانبها المتعلق بالطائفية في مواجهة الهوية العربية تطرح ثلاث إشكاليات:
- الأولى؛ تتمثل في أن هذا النكوص قد يكون مفهوماً في ظل ما تعرض له العرب في العقود الأخيرة من تدمير منهجي وما رافق ذلك من تراجع في الفكرة العروبية لدى النخب والجماهير على حد سواء، ولكن أن يتم الخلط بين العروبة كهوية سياسية وبين العروبة كتجربة سياسية قومية لبعض الأحزاب والحركات في تاريخ العرب المعاصر، فأمر لا يمكن القبول به على الأقل بين أوساط النخب الفكرية والسياسية، خصوصاً أن هذه العملية تتم في الغالب من دون إجراء عملية فصل واضحة بما يجعل من المتعسر توضيح كيف يمكن للعروبة أن تكون المخرج الوحيد المتصور للأزمة الطائفية المتفشية بين نخبنا وحتى داخل أوساط المجتمع.
- الثانية؛ تتمثل في هذا الهروب الجماعي نحو الطائفية، خصوصاً بعد انهيار الدولة العراقية وبناء دولة طائفية على أنقاضها، حيث أصبح هذا النموذج الجديد الذي تم بناؤه بالتعاون بين الأمريكان والإيرانيين والقوى الطائفية داخل العراق المحتل، له إغراءاته لبعض التجمعات الطائفية في أكثر من مكان، مشجعاً بموجة الثورات والانتفاضات العربية، من ناحية، وبفشل أغلب الأنظمة العربية في تحقيق وبناء الديمقراطية أو نموذج للمشاركة جاذب ومقنع.
- الثالثة؛ أن هذا الهروب إلى الطائفية والمصاحب للنكوص عن الثوابت العربية، بالرغم من ادعائه بأنه يتشبث بالديمقراطية ويتطلع إليها، فهو في الحقيقة نموذج معاد للديمقراطية، وقد كشف بعض الزعماء الطائفيين المقصود لديهم بالديمقراطية عند التأكيد بأن الديمقراطية في النهاية تقاسم للسلطة والنفوذ (وبالتالي للثروة) على أساس طائفي، ولتوضيح المقصود بالمحاصصة الطائفية هنا يمكننا أن نحيل إلى النموذج اللبناني، فعلى رغم أن الفاعلين السياسيين في هذا النموذج ليسوا رجال دين، وغالباً لا يكونون حتى متدينين، إلا أن النظام طائفي يعتبر الهوية المذهبية هوية سياسية على أساسها تتم المحاصصة السياسية، فإن السني لا ينتخب سوى السني والشيعي لا ينتخب سوى الشيعي والدرزي لا ينتخب سوى الدرزي وكذلك المسيحي.. فالترشح والترشيح مربوطان في أغلب الأحيان بالمذهب أو بالدين حتى لو لم يكن المرشح غير متدين، بما يعني في النهاية تحويل المذهب إلى هوية سياسية، وتحويل أتباع المذهب إلى جماعة سياسية، تتفاعل في المجال السياسي باعتبارها هوية وجماعة شبه – قومية ذات حقوق ومطالب سياسية متعلقة بها. ومن هذه الزاوية لا يهم أي المذاهب أقرب للحقيقة من غيرها، فتحويل المذهب إلى هوية سياسية وأتباعه إلى جماعة سياسية، يجعل العلاقة بين هذه الطوائف لا يحكمها منطق الحوار من أجل الحقيقة، ومن أجل المصلحة الوطنية أو من أجل المصلحة العامة بل يحكمها منطق الصراع على المصلحة السياسية الطائفية المتوحشة المتجردة من الإنسانية.حتى إن الخروج من نكبة الطائفية لا يكون إلا بالتشبث بالمواطنة الحرة وهذا لا يكون إلا ببناء الديمقراطية والشراكة الوطنية الكاملة، وباستعادة الثوابت العربية والتشبث بالهوية العربية لأن العروبة تظل هي المخرج للأزمة الطائفية، ففي الماضي شهدت أوروبا حروباً طائفية طاحنة لم يتم حسمها إلا بإنشاء الدولة القومية الحديثة، لكن في العالم العربي لعبت الدول القطرية دوراً رئيساً في تسييس الهويات الطائفية ورعايتها، بل لكون شرعيتها في تمثيل جزء من الأمة بدأت في التآكل نتيجة عدم تعاملها مع مواطنيها باعتبارهم عرباً وعدم بناء سياساتها الداخلية والخارجية على هذا الأساس. وكنتيجة لتخلي الدولة القطرية عن الهوية العربية وتحول الهوية الوطنية الحديثة في بعض البلدان العربية إلى هوية احتفالية، لا هوية تنبثق من علاقة حقوقية بين مواطن ودولة ومواطن ومواطن، فإن هذا المناخ العام أصبح مهيأً للحركات الطائفية لتحويل الانتماء المذهبي الديني إلى هوية سياسية، والارتداد بالتالي عن الهوية المواطنية الجامعة.