من بين أهم ركائز الديمقراطية؛ مدنية الدولة - التنوير- العقلانية والحرية، ونحن في الواقع خارج هذا المربع، فمدنية الدولة مرادفة للعلمانية، وهي مجرمة عندنا معنى ومبنى، والحرية مرفوضة، والعقلانية غير موجودة والتنوير تمت محاربته باعتباره حداثة والحداثة بدعة والبدعة ضلالة والضلالة كفر والكفر في النار.
وإذا كانت هذه الركائز غير موجودة في الدولة الوطنية رغم مرور أكثر من نصف قرن أو أكثر على الاستقلال في أغلب البلدان العربية، فإنه من الطبيعي أن تكون غير موجودة في فكر التيارات الدينية بكافة توجهاتها، ومن الطبيعي أن يكون السائد بينها هو تقديس القيادات الدينية ضمن مبدأ السمع والطاعة، وحتى قيام «انتفاضات واحتجاجات» في بعض البلدان العربية، لم يؤد إلى دخولها المربع الديمقراطي، ولن يؤدي طبعاً إلى تحقيق التحول الديمقراطي بمعناه الليبرالي، لأن السائد في فهم الديمقراطية هو اختزالها في الانتخابات فقط.. والتي توصل الأغلبية إلى «الاستيلاء على السلطة».
قد يكون المطلوب منا للخروج عن حالة التجاذب الحالية التي تقسم المجتمعات العربية إلى مجتمعين «أصلي وطارئ»، «أصيل ومستورد» و»تقليدي وحداثي»، أن نحسم موقفنا الفكري بين مركزي التجاذب؛ التسلط باسم الدولة الوطنية أو تسلط باسم الدين والمراجع الدينية، وتلك مأساة حقيقية تجعلنا كالمستجير من الرمضاء بالنار!!
المأساة تكمن في أننا نهرب من سلطة تحاول إصلاح نفسها إلى استبداد كامل باسم الدين؛ تسلط يمكن نقده وانتقاده وحتى الخروج عليه قولاً وفعلاً، إلى تسلط «مقدس» يعد نقده محرماً وانتقاده جريمة تساوي الردة، والخروج عليه يحتم الرجم والقتل والنفي والتغريب.
أي مأساة أكبر من أن يكون البديل أسوأ مما هو قائم!! وأن تتم محاولة إقناعنا بأن الاستبداد باسم الدين أو الطائفة هو البديل عما هو قائم، فالكل يتحدث عن مشروع إسلامي ديمقراطي، وبعضهم بات يتحدث علانية عن دولة مدنية في ظل حكم الإسلاميين، وهذا قد يكون تطوراً حميداً لو كان حقيقياً، وليس لمجرد المناورة السياسية، لأنه من الواضح أن التيارات السياسية الدينية (بغض النظر عن نوعية المذهب والمرجع) تقع في تناقض فاضح بين ما تقوله على صعيد التنظير والدعاية، وبين ممارساتها العملية على الأرض، ففي الواقع لكل تيار مرشد عام أو مرجع مقدس، فالمرشد هنا هو الحاكم الفعلي، وهو «الكل في الكل» وهو المرجع والمفتي والحاكم والفيصل والمقرر العام.. له الرأي والقرار والإرشاد والرشاد، إذا قال: «لا أو نعم» تكون النتيجة هي السمع والطاعة ولا غير.
فأية ديمقراطية في ظل وجود «مرشد» أو «مرجع»، خارج الإرادة الشعبية وخارج النقاش الحر وخارج حرية المواطنين وخارج حرية العقل والاجتهاد؟
الثورات كانت دون قيادة فكرية، ورغم وجود نضالات سياسية مهمة لا يجب إنكارها، فإن المثقف كأنما هرب من مواجهة دوره التنويري في المجتمع، والقوى السياسية - الدينية المنظمة هي وحدها التي استطاعت في غمرة التحول الوصول إلى السلطة، التيارات الدينية اختطفت الحراك السياسي بتبني شعارات ثورة الشباب من ناحية واستعادة شعارات أسلمة المجتمع من ناحية ثانية، تماماً مثلما حدث في إيران -مع الاحتفاظ بالفوارق- فإن التكتيك يكاد يكون مطابقاً.. مع فارق واحد وهو أن الغرب لا يريد أن يعادي الإسلاميين هذه المرة حتى لا يخرج من المولد بلا حمص، بل لم يعد يرى مانعاً من التحالف معهم طالما أنهم لا يعادونه ويضمنون مصالحه الاقتصادية والسياسية ويظلون داخل المربع المرسوم..!
المشكلة عندنا سياسية وفكرية في ذات الوقت، فالذي يحكم العالم الإسلامي إلى اليوم هو فكر الأمر والطاعة، بعكس فكر العقل الحر المستنير، الذي يحكم الشارع السياسي والفكري الإسلامي هو فكر الغزالي وليس فكر ابن رشد، لأن فكر ابن رشد من داخل النسق الإسلامي يقوم على العقلانية والاجتهاد.. والمطلوب اليوم هو الخروج من نفق القداسة والمرجعيات المقدسة التي ترفض النسبية وتعادي الإبداع والحرية والحداثة والحرية الحقيقية.