في تصريح غير مسبوق نقلته وكالة الأنباء الروسية «نوفوستى»، قال نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، «إن الرئيس السوري بشار الأسد يفقد السيطرة على الوضع والمعارضة قد تربح، بعد أن أعرب عن قلق بلاده من احتمال وقوع أسلحة كيماوية في أيدي المسلحين المناهضين للحكومة السورية، كما لم يستبعد انتصار المعارضة السورية المسلحة في نهاية المطاف». ترد عليه الخارجية الأمريكية، كما جاء على لسان الناطقة باسم الوزارة فيكتوريا نولاند بتوجيه دعوة علنية إلى روسيا كي تكف عن الاستمرار في «تعاونها الاقتصادي مع سوريا والمساعدة في تشكيل حكومة انتقالية سورية»، مؤكدة استعداد واشنطن للتعاون مع موسكو من أجل «إيجاد أشخاص مستعدين لتشكيل سلطة انتقالية». يترافق ذلك مع رؤية البيت الأبيض «بأن بشار الأسد لن يكون جزءاً من المستقبل في سوريا»، مؤكداً على لسان المتحدث باسمه جاي كارني، «أن الأسد يجب أن يغادر الآن من أجل الشعب السوري ويجب أن ينحي نفسه عن السلطة «. على نحو مواٍز باكستان تسحب طاقمها الدبلوماسي من سوريا نظراً لتدهور الأوضاع الأمنية، وتبدي بلغاريا استعدادها، كما جاء على لسان نائب وزير الخارجية البلغاري إيفان نايدينوف «لدعم المجلس الوطني السوري وقوى المعارضة بشكل كامل». في خضم كل ذلك تطل علينا باريس مرحبة، كما جاء على لسان المتحدث المساعد باسم خارجيتها فانسان فلوريانى «بنتائج المؤتمر الرابع لمجموعة (أصدقاء الشعب السوري) الذي عقد بمراكش بمشاركة 130 وفداً وأكثر من 50 وزيراً»، مضيفة بعداً قوياً للتعبئة الدولية المتجهة نحو معالجة الوضاع في سوريا.
سبق كل ذلك تلك الزيارة التاريخية لرئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل لقطاع غزة، وتلك الكلمة الملتهبة التي ألقاها أمام المهرجان الجماهيري الحاشد الذي أقامته الحركة في الذكرى الـ 25 لانطلاقها قال فيها إن «فلسطين من بحرها لنهرها شمالها لجنوبها أرضنا ووطننا لا تنازل ولا تفريط بأي شبر أو جزء منها، لا يمكن أن نعترف بشرعية احتلال فلسطين، لا شرعية لإسرائيل مهما طال الزمن فلسطين لنا لا للصهاينة». أعقب ذلك للمرة الأولى منذ العام 2007، تحتفل حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بمشاركة الآلاف من أنصارها بالذكرى السنوية 25 لانطلاقة الحركة بمهرجان شعبي نظمته في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية.
ترافق كل ذلك مع تصريحات من واشنطن ولندن وعواصم غربية تحدثت حذرت فيها من استخدام نظام بشار الأسد لصواريخ من نوع سكود في حربه التي يشنها ضد القوات التي تعارض حكمه، وأكدها مسؤول في حلف شمال الأطلسي قائلاً «إن عدداً من الصواريخ قصيرة المدى من نوع (سكود) أطلقت في سوريا هذا الأسبوع، مضيفاً لقد رصدت أجهزة المخابرات والمراقبة والاستطلاع في الحلف إطلاق عدد من الصواريخ قصيرة المدى غير الموجهة داخل سوريا هذا الأسبوع. وتشير مسارات المقذوفات والمسافات التي قطعتها إلى أنها صواريخ من نوع سكود».
من جانبها نفت سوريا ذلك، وجاء على لسان مصدر مسؤول في وزارة الخارجية السورية أن بلاده ترفض تلك الاتهامات « جملة وتفصيلاً، وأن الهدف من ترويج الشائعات حول استخدام الجيش العربي السوري صواريخ سكود في التصدي للمجموعات الإرهابية المسلحة، هو التأثير على صورة سورية ومكانتها لدى الأسرة الدولية».
وسط كل تلك المعارك الإعلامية، ومن بين دخان وألسنة لهب المعارك الحربية، يتوقف المتابع لتطور الأوضاع في الشرق الأوسط عند تعليق أوردته صحيفة «الفايننشال تايمز» البريطانية، دعت فيه المعارضة السورية إلى التنسيق فيما بينها، من أجل التوصل «إلى اتفاق سلام مشابه لاتفاق (دايتون) إبان الصراع في يوغوسلافيا في التسعينيات من القرن الماضي، (ثم تمضي كي تحذر، وهذا هو الأهم، من مخاطر) امتداد الصراع السوري إلى دول الجوار، وتسلل مقاتلي القاعدة إلى جانب عناصر متطرفة أخرى إلى الساحة، بالإضافة إلى دعم إيران لميليشيات مؤيدة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، كل هذا وذاك ينذر بتحول الحرب الأهلية في سوريا إلى صراع إقليمي».
هذا يعني في قاموس الصراعات السياسية أن هناك خيطاً رفيعاً، لم يكشف النقاب عنه يربط بين النتائج التي سينتهي إليها الصراع المحتدم فوق الساحة السورية، وترتيبات مستقبلية مختلفة تنتظر دولاً أخرى في منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي فينبغي أن تطبخ الأمور في سوريا على نار هادئة كي يتسنى للأطراف ذات المصلحة المباشرة في إعادة رسم الخارطة الشرق أوسطية الجديدة، وفي نظرة شمولية، فوق نار هادئة، فليس هناك ما يدعو إلى الاستعجال والتسرع، خشية حرق أصابع الطباخين، أو إفساد الطبخة ذاتها.
ومن هنا فمن المتوقع أن تستمر الأوضاع في سوريا على ما هي عليه الآن لفترة ليست بالقصيرة، نشاهد فيها الكثير من معارك الكر والفر، وتبادل استيلاء المعارضة على مناطق، ثم اضطرارها للانسحاب منها ثم استعادة جزء منها، دون أن تسمح القوى الدولية، التي تضع قدر الشرق الأوسط الجديد فوق النار الهادئة التي أشعلتها، لتلك المعارضة بابتلاع قطع أرض كبيرة دفعة واحدة، بل سترغمها، من خلال التحكم في كميات وأنواع السلاح التي تزودها به على القبول بسياسة القضم البطيئة المتواصلة التي تشتت قوى النظام، وتجعله قابلاً للاستسلام في اللحظة المناسبة كما تقررها تلك القوى الخارجية.
سياسة الطبخ على نار هادئة، تسعى لتحقيق ثلاثة أهداف أساسية مترابطة هي:
1. إعادة ترتيب الأوضاع في مصر التي يبدو أنها لم تعد تسير وفقاً لتوقعات تلك القوى، حيث بدأ الرئيس المصري محمد مرسي يفصح عن بعض مشروعات «جماعة الأخوان المسلمين» التي تتضارب في بعض بنودها مع مشروعات تلك القوى تجاه الساحة المصرية. ومن ثم فهناك حاجة ماسة اليوم إلى الانتهاء من الأوضاع المصرية، وبشكل جذري، قبل الالتفات إلى ساحات شرق أوسطية أخرى مثل سوريا، وربما فلسطين. ولعل في زيارة مشعل الأخيرة إلى غزة، وما رافقها من تصريحات «حماسية» وردود فعل إسرائيلية هي أحد مؤشرات تسخين ساحات أخرى لإضافتها إلى مكونات تلك الطبخة عندما تحين اللحظة المناسبة.
2. استنزاف نظام الأسد من الخارج في معارك يضطر فيها إلى اللجوء إلى كافة أنواع الأسلحة التي بحوزته، والتي يسمح القانون الدولي له باستخدامها، ونخره من الداخل من خلال الانشقاقات التي باتت تصل إلى أعضاء يتربعون على كراسي مؤسسات في قمة الهرم السلطوي، كي يفقد أوراقه القوية عندما تحين لحظة المساومات وطرح البدائل. وليست معارك صواريخ «سكود» العسكرية ومعها التراشق الإعلامي، سوى حلقات مترابطة في ذلك المخطط، المستند على عناصر استراتيجية «الطبخ على نار هادئة».
3. إرهاق المعارضة في معارك متلاحقة وسريعة، تفقد جراءها، حتى عندما تحقق بعض الانتصارات، الكثير من قواها، مما ينضجها، وعلى نار هادئة أيضاً، كي تكون مستعدة، بعد أن خارت قواها، على القبول بمكاسب أدنى بكثير من تلك التي كانت تتوقعها، لكنها لن تكون حينها في وضع يسمح لها برفع سقف تلك المطالب.
شرق أوسط جديد يوضع في قدر ويطهى على نار هادئة، تحرق أصابع المستعجلين، وتسقط ثمارها ناضجة في أحضان من يتبصرون فيصبرون.