الحديث في الطائفية هو حديث في السياسة، وليس حديثاً عن الإسلام، فالإسلام لم يمنع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ حين فتح بيت المقدس ـ من تنظيف كنيسة القيامة بنفسه، وتأمين النصارى على دينهم وأموالهم بوثيقة رسمية سُميت «الوثيقة العمرية».
والحديث في الطائفية هو حديث في البراغماتية والتوازنات وليس حديثاً في المذاهب، فالحالة المذهبية الإسلامية لم تمنع الأزهر الشريف في عهد الشيخ محمود شلتوت عام 1959 من تبني المذهب الجعفري مذهباً فقهياً يدرس في جامعاته، ويعتد ببعض جوانبه في الفُتيا. الحديث في الطائفية حديث في المكاسب التي يجنيها رؤوس الطائفة والخسائر التي يحصدها أتباعهم.
(1)
يبدو أن القرن الحادي والعشرين هو قرن الطائفية الإسلامية، فبعد أحداث 11 سبتمبر2001، التي مازالت لغزاً لم تفسره الإدارة الأمريكية بعد، وبعد الحرب التي شنتها أمريكا وحلفاؤها على أفغانستان عام 2001، وحرب إسقاط نظام صدام حسين في العراق عام 2003، تعاظمت قوة التيار السياسي الشيعي في المنطقة خصوصاً بعد أن تمكنت الأحزاب السياسية الشيعية من السيطرة على حكم العراق، وبعد أن ارتفعت أسهم «حزب الله» في أعقاب معركة صيف 2006، التي شنتها إسرائيل على لبنان والتي انتهت بتدمير كبير للبنان، ومن ثَم انفجرت الخلايا النائمة التابعة للتيار السياسي الشيعي في الجزيرة العربية تحديداً، في البحرين والسعودية والكويت واليمن حين هاجم الحوثيون الخاصرة الجنوبية للمملكة العربية السعودية، وقد تخلل كل هذا حرب بلا هوادة ضد تكوينات تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية وتجفيف منابعها، والدخول مع من يتبنى أيديولوجية القاعدة والجماعات الراديكالية في مراجعات فكرية أدت إلى تخلي العديد من الشباب الخليجي والمصري عن الأفكار المتطرفة، كما تخللها سوء تقدير لحركة التيارات السياسية الشيعية واتصالاتها بمراكز القوة في المنطقة وخارجها، الأمر الذي ترتب عليه إسدال الستار عن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وقد بلغ التيار الشيعي السياسي مداه وخطره على العديد من الدول العربية.
(2)
بدأ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بموجة ما يسمى بـ « الربيع العربي « وسقوط بعض الأنظمة العربية، وكانت النتيجة اللافتة للنظر وصول جماعات «الإخوان المسلمين» في تونس ومصر إلى السلطة متحالفين مع السلفيين عبر صناديق الانتحاب، لم يكن الأمر مقلقاً في البداية إذ إن الإخوان المسلمين عرفوا باعتدالهم ووسطيتهم، فهناك من يطلق عليهم «الإسلاميون الليبراليون»، وللشيخ التونسي راشد الغنوشي الكثير من التصريحات الداعمة للحريات العامة وترسيخ القواعد المدنية والوطنية في الحكم الإسلامي، إلا أن الأمر بدأ يثير الريبة من انحراف مسيرة الديمقراطية في مصر وتونس والسير خلف قاعدة «التمكين» للجماعة المسلمة في الحكم والتغاضي عن أولويات الإصلاح وتأسيس الديمقراطية التي لأجلها قامت الثورات والانجرار خلف سلسلة من السياسات التي أدت إلى ظهور حركة تطرف مشرعَنَة تحميها الدولة أو في أحسن الظروف لا تتعامل معها أمنياً، وربما كان التطور المريب في الحركة السياسية المصرية هو عملية كتابة الدستور المصري الذي قيد معظم مواد الحريات العامة، والذي نص في مادته «221» على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة» وهي المادة التي أثارت استياء كبيراً في مصر لأنها تصنف الهوية المصرية إلى هوية مذهبية، وهذا يحيلنا إلى مادة الدستور الإيراني التي تجعل من إيران دولة إسلامية مذهبها الرسمي المذهب الجعفري الاثني عشري!! مما يجعلنا بإزاء عاصمتين مركزيتين الأولى مذهبها شيعي، والثانية مذهبها سني، في تقليص واضح، لا يرتابه شك، للهوية الإسلامية إلى هوية مذهبية!!
(3)
في الجغرافيا العربية الآسيوية لا يبدو الأمر مختلفاً، بل يبدو أشد تعقيداً وخطورة، فالملف السوري يغرق أكثر فأكثر في الاقتتال الداخلي ونفوذ الجماعات الإسلامية القادمة من أقطار شتى للجهاد في سوريا لم يعد فبركة من النظام السوري بقدر ما صار مبرراً أخلاقياً لبشار الأسد ونظامه يسوغ لهم الاستمرار في الحكم والقتل والتمادي في إطالة أمد الأزمة السورية، ففي الأسابيع القليلة المنصرمة تمكن الجيش السوري من إحباط إقامة «إمارة حلب الإسلامية»، حسب تعبير الإعلام السوري الرسمي، وإقامة دولة العدل التي ستطبق شرع الله وستحكم تحت راية لا إله إلا الله، حسب ما جاء في إعلان بعض الألوية الإسلامية التابعة للجيش الحر في تسجيل مصور لها على الـ «يوتيوب»، ومن الأحداث التي تدلل على عمق تغلغل هذه الجماعات الراديكالية وانجرافها خلف الحل العسكري دون دراية أو دراسة للعواقب التي قد تترتب عن تحركاتها، ما حدث في مخيم اليرموك الخاص باللاجئين الفلسطينيين، حيث أقدمت هذه الجماعات الراديكالية على احتلال المخيم مما دفع سكان المخيم إلى تشكيل لجان أمنية خاضت معارك لمنع إخضاع المخيم لما يسمى بـ «الجيش الحر» و»جبهة النصرة الإسلامية»، مما أدى إلى قصف الجيش السوري للمخيم لإخراج عناصر «الجيش الحر» و»جبهة النصرة» التي تمكنت من احتلال بعض المواقع في المخيم وهو ما ترتب عليه سفك الدم الفلسطيني اللاجئ وتوريط الفلسطينيين في فوضى الملف السوري، وقد أكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في تصريح أخير له عقب لقائه الأخير بالرئيس المصري محمد مرسي الأسبوع الماضي، أن جماعات المعارضة حاولت احتلال المخيم الذي حاول سكانه الالتزام بالحياد إلا أنه اتهم أحمد جبريل زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، المقيم هو وفصيله في المخيم، بأنه عميل للمخابرات السورية، مما يعني استثماراً غير حكيم للفصائل الفلسطينية لأحداث سوريا في تعميق الخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني، وقد يؤدي إلى المزيد من سفك الدم الفلسطيني في القضية السورية. والمقلق في الأمر أن أفق الحل السياسي شبه منعدم في سوريا، والحل العسكري يتجه إلى مواجهات بين الجيش الرسمي والجماعات متعددة الانتماءات التي يغلب عليها الطابع الراديكالي، مما يجعل التوقعات حول المستقبل السياسي لسوريا مقلقة حقاً!!
(4)
في العراق بدأ السنة ينتفضون، سنة العراق أول من تجرع كأس الطائفية الدامي، وأكثر من دفع ضريبة الدولة الطائفية من دمه ومأواه وعرضه ومستقبل أبنائه، وعلى الرغم من رفع المنتفضين لمطالب سياسية عادلة وعلى الرغم من تأييد العديد من التيارات الشيعية والمراجع الشيعية لعدالة هذه المطالب مما يضفي على انتفاضة الأنبار الصفة الوطنية، إلا أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يحاول باستماتة وسْمها بالحركة الطائفية المستدعية للنفوذ الخارجي والمستفيدة منه، ويحاول كذلك تأليب المكون الشيعي ضد المكون السني المنتفض، وعلى الرغم من عدالة قضية أهل السنة في العراق كقضية طائفية بحق، إلا أن هناك أصواتاً من داخل الانتفاضة نفسها تحاول جر هذه الانتفاضة إلى انتفاضة طائفية، وهو ما قد ينزلق بالعراق إلى مستنقع جديد للدم، ربما لن يبقي ولن يذر، يضاف إلى ذلك زيارة نوري المالكي للأردن التي يقال إنها جاءت لمناقشة وسائل منع تدفق، متوقع، لعناصر «جهادية» عبر المنافذ الأردنية، خصوصاً وأن ثورة السنة في العراق انطلقت من محافظة الأنبار، واتخذتها مركزاً لها، وهي محافظة تقع على الحدود السورية والأردنية مما يفتح المجال لتسلل عناصر متعددة من هذه الحدود، ويرجح هذا التصور الإغلاق الأخير للمنافذ العراقية الأردنية من الجانب العراقي، ومايزال مستقبل انتفاضة سنة العراق غير واضح لأن جميع الأطراف مازالت تترقب أو تخطط بصمت أمام اشتداد الحركة ومصداقيتها !!
(5)
هناك فرق بين المشروع «الشيعي» السياسي، والمشاريع «السنية» السياسية، فالمشروع الشيعي مشروع ممنهج سياسياً، ينطلق من المركز «طهران» ويمد نفوذه في العديد من العواصم العربية، وملامحه الوطنية واضحة في بناء دولة قوية، هي إيران، تكتفي ذاتياً بمعظم مواردها الزراعية والصناعية وتتجه نحو التفوق النوعي في التعليم والتصنيع، وملامحه الخارجية واضحة كذلك حيث تقوم على زرع النفوذ عبر «وكلاء مرجعيات» الولي الفقيه الإيراني في معظم الدول العربية والأفريقية، وتقوم السياسة الخارجية على تعدد التحالفات السياسية وإيجاد بدائل للحصار السياسي والاقتصادي المضروب على إيران منذ قرابة عقد من الزمان، أما المشاريع السنية فليس لها ملامح إلا ملمح « التمكين» الداخلي للأحزاب الإسلامية، وليس هناك مركز يقود هذا المشروع ولا تنسيق بين عناصره، كما إن النشاط السياسي الداخلي لا ينهض بدولة مدنية أو وطنية تتخطى الأزمات التي لأجلها تم إسقاط الأنظمة في مصر وتونس، والطابع الراديكالي هو الغالب على هذا المشروع، مما ينذر الدول العربية بمخاطر تهدد مفهوم الدولة نفسها، وهذا، تحديداً، ما تواجهه مصر وتونس وليبيا.
(6)
نحن إذاً أمام مشهد سياسي تطفو فوقه التيارات الإسلامية الراديكالية «السنية» فوق بحر الفوضى التي تجتاح أمواجه الوطن العربي، فلدينا في الجانب الأفريقي تزايد لنفوذ الجماعات المتشددة في كل من ليبيا وتونس ومصر ونضيف إليهم الجماعات الراديكالية القليلة التي مازالت تتنفس في الجزائر، ولدينا في المشرق العربي ثورات «سنية» في سوريا والعراق، وبينهما شبه جزيرة سيناء التي يجهل الجميع واقعها ومصيرها وحقيقة الجماعات الجهادية التي تخيم فيها وتتبادل آلاف القطع من السلاح الثقيل والخفيف، والسؤال الذي يطرحه المراقب من هذا المنظور، إلى أين يتجه الوضع الطائفي في المنطقة العربية؟ وماذا سيجني المواطن البسيط الذي يطمح إلى تحسين وضعه الاقتصادي والاجتماعي والديمقراطي من اتجاه الدول العربية نحو الهوية الطائفية؟
وللحديث بقية