«رغم أني أعلم أنني لم أرتكب أي جريمة.. قررت الاستقالة من منصبي كوزير للخارجية ونائب لرئيس الوزراء.. وأيضاً نزع حصانتي (البرلمانية) فوراً حتى أتمكن من إنهاء هذا الأمر سريعاً ودون إبطاء وتبرئة ساحتي تماماً».
هذا المقتطف مقتطع من نص جاء في البريد الإلكتروني لوزير الخارجية الإسرائيلي المستقيل أفيغدور ليبرمان، إثر اتهامه بممارسة «الاحتيال وخيانة الأمانة».
ومما جاء في بنود لائحة الاتهامات التي يواجهها ليبرمان اليوم هي أنه «وبأعماله المذكورة أعلاه قام بمخالفات جنائية تتعلق بالفساد والنصب وخيانة الأمانة التي ضربت بعرض الحائط بالجمهور الإسرائيلي، وأن تعيين بن آريه سفيراً في لاتفيا وقبلها استلامه منصب المستشار الدولي لوزير الخارجية إنما هي تعتبر رد جميل على ما قام به من أجل ليبرمان من مخالفات سابقة».
يستدعي تقويم ما أقدم عليه ليبرمان إلقاء بعض الأضواء على شخصية ليبرمان؛ فهو محسوب على صقور اليمين الإسرائيلي، ولم تستطع ابتسامته المتكلفة التي يحاول المحافظة عليها أن تخفي أنيابه الصهيونية المتطرفة منذ أن كان في الاتحاد السوفياتي عندما أسس هناك، وفي مرحلة مبكرة من شبابه «المنتدى الصهيوني» ليهود الاتحاد السوفيتي.
وكان آخر موقف عنصري أكد فيه ليبرمان صهيونيته هو لحظة تهديداته «بحل السلطة الفلسطينية نهائيا في حال أصر الرئيس الفلسطيني محمود عباس على التوجه إلى الأمم المتحدة للحصول على دولة غير عضو فيها». ورغم أنه محسوب على التيار العلماني في إسرائيل لكنه أيضاً مؤسس»حزب إسرائيل بيتنا اليميني المتشدد وزعيمه، يعرف بمواقفه الداعية إلى تهجير من لا يعترف بإسرائيل دولة يهودية صهيونية».
وهو أيضاً من اعتبر خطاب أبو مازن في الأمم المتحدة «أكثر من بصقة في الوجه»، وطالب أن توقف إسرائيل ما أطلق عليه «التنفس الاصطناعي لأبو مازن»، في إشارة إلى الأموال التي تنقل من إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية عندما قال «هذه هي المرة الثانية التي ننقل له فيها سلفة تتيح له دفع الرواتب لكل موظفي السلطة الفلسطينية، وهو حتى لم يقل كلمة شكر واحدة».
وهو الذي طالب في برنامج حزبه لانتخابات الكنيست السادسة عشرة بالحاجة «لتشريع قوانين متشددة أقصاها التجريد من الجنسية ضد أشخاص مثل أوري افنيري وليئا تسيميل (ممن وصفهم) بالمنشقين الذين يفترون على إسرائيل في العالم «، كما دعا أيضاً «إلى تجريد كل من الدكتور عزمي بشارة والدكتور أحمد الطيبي من حقهما في خوض الانتخابات للكنيست، الأمر الذي دفع أهارون باراك رئيس محكمة العدل العليا الإسرائيلية في حينه للمقارنة بين الظاهرة في إسرائيل وتلك التي سبقت قيام الرايخ الثالث».
وليبرمان هو ذاته من دعا في خطاب له أمام الأمم المتحدة في أكتوبر 2010 إلى أن العمل بمشروع «تبادل الأراضي ليس مفيداً ولا مقبولاً، كما هو مطروح. علينا أن نخرج من الغموض. (مؤكداً أن) الحل الموضوعي يقوم على تبادل الأرض والسكان». وليس أدل على فاشية هذه الدعوة من مسارعة بنيامين نتنياهو «إلى التبرؤ من الموقف»، رغم أنه «لم يتبرأ من الاقتراح، ولم يناقش جوهر مشروع التبادل».
ولا تخلو سياسته الاستيطانية من نزعته الفاشية المتأصلة فيه، فهو لم يكف، وفي أكثر من مناسبة، على الإصرار أن المستوطنات لا تشكل عقبات بوجه السلام. فنجده يخاطب حلفائه الغربيين قائلاً «سبق وأن أعطيت هذا الرد عدة مرات. عليكم أن تفهموا أننا وقعنا على اتفاقيتين للسلام مع مصر ومع الأردن رغم المستوطنات. عليكم أن تفهموا أننا بدأنا بالنشاط الاستيطاني فقط بعد عام 67 وأنا لا أتذكر أحداً حاول إقامة دولة فلسطينية خلال تسعة عشر عاماً، بين 48 و67 عندما كان العالم العربي مسيطراً على جميع هذه الأراضي. والعكس هو الصحيح كذلك. أخذنا على عاتقنا عملية انسحاب وقمنا بإخلاء 21 مستوطنة مزدهرة من قطاع غزة وكانت النتيجة وصول حماس إلى السلطة وإطلاق صواريخ على سديروت.
بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يساوي بين موقف العرب من إسرائيل وسياسة هتلر تجاه تشيكوسلوفاكيا، حيث يشير بوقاحة منقطعة النظير في مقالة نشرتها له صحيفة «الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية صبيحة بيوم 30/4/2010، جاء فيها «وكما هو معروف جيدا، فإن أطماع هتلر لم تتوقف عند تشيكوسلوفاكيا، فدفع العالم بأسره ثمناً رهيباً بحياة عشرات الملايين من البشر لإرضاء هتلر وفرض سلام مفتعل. لن تكون إسرائيل تشيكوسلوفاكيا الثانية، ولن تستسلم للضغط الدولي لتقديم التنازلات فيما يتعلق بمصالحها الحيوية. ومن الأهمية بمكان، عشية بدء المحادثات عن قرب بين إسرائيل والفلسطينيين، تذكير المجتمع الدولي أن دولة إسرائيل قد أثبتت مراراً استعدادها لدفع ثمن باهظ مقابل السلام مع جيرانها».
وحول موقفه من الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على غزة، وأطلقت عليها «عمود السحاب»، يؤكد ليبرمان على صحة اتخاذ قرار تلك الحرب قائلاً «أولاً وقبل كل شيء، يجب أن يكون واضحاً أن القرارات تتخذ وفقاً للمصلحة الوطنية. وليس وفقاً للرأي العام، لا يهم إذا ما مورس نوع من الضغط من قبل المجتمع الدولي، عندما تتعلق المسألة بالسلم والحرب يجب اتخاذ قرارات صعبة حقاً، ويجب أن تتم من دون أي تأثير خارجي. أعتقد أننا اتخذنا القرارات الصحيحة -رغم أنها كانت قرارات صعبة- وحققنا كل أهدافنا. حتى لو كانت ضد مصالح الدائرة السياسية، حتى لو كانت ضد مصالحنا الانتخابية، أنا فخور لأننا اتخذنا القرارات الصائبة».
رغم كل تلك الشخصية الصهيونية العدوانية تجاه الفلسطينيين التي عرف بها ليبرمان، لكنها لم تكن كافية كي تغفر له تجاوزاته للقانون الإسرائيلي. ربما يكون مصير ليبرمان محصلة صراع داخل مراكز القوى في المؤسسة الصهيونية لكنها في نهاية المطاف أخذت شكلاً معاصراً، ربما يتنافى حتى مع قيم ليبرمان الصهيونية.
ترغمنا استقالة ليبرمان على الالتفات نحو البلاد العربية دون الحاجة للغوص عميقاً في أوضاعها كي نكتشف أن هناك من تجاوز بحق دولها جرائم تفوق ما ارتكبه ليبرمان من تجاوزات. لكنهم في إسرائيل، وعندما يكون الأمر محصوراً داخل المجتمع اليهودي، بعد أن يستثنى منه الفلسطينيون، يعملون وفق قانون الثواب والعقاب، وهو ما لا نعرفه نحن العرب الذين ما تزال دولنا تكافئ من هم أسوأ من ليبرمان، عندما يقاس سلوك المسؤول بمدى تقيده بمصالح الوطن والمواطن.
يلخص الكاتب يحي اليحياوي في مقالة نشرها في العام 2009، شخصية ليبرمان بشكل دقيق حين يقول عنه «إن أفيغدور ليبرمان، بكل ما صدر ويصدر عنه، ليس صاحب لسان قذر، ولا هو بالشخص غير المهذب كما تصفه الخارجية المصرية، ولا هو باليميني، الموغل في التصهين.. إنه كل ذلك دون شك، لكنه لا يعبر بكل ذلك وبالمحصلة، إلا عن الضمير الجمعي للإسرائيليين...ويقول جهارة ما يضمره الآخرون، سياسيون ومواطنون على حد سواء...هناك بفلسطين المحتلة».
فهل يعقل أن يكون ضميرنا الجمعي العربي هو مصدر فساد بعض القادة العرب؟