كان على نحو مواز لتلك الخلافات يبرز بوضوح، ويحضر بقوة الخلاف العربي مع طرفين آخرين مستقلين منها هما إسرائيل وإيران. تجدر الإشارة هنا إلى اختلاف وزن كل منهما (الخلاف العربي الإسرائيلي، والخلاف العربي الإيراني) على حدة، لكنهما يتبادلان موقعي الأهمية وفقاً لطبيعة تطور الأوضاع في المنطقة.
فعلى مستوى الصراع العربي الإسرائيلي في نطاق الساحة السورية، يمكننا القول إنه وصل إلى صيغة شبه مستقرة، منذ أن وقعت سوريا اتفاقيات السلام مع تل أبيب، ومن ثم، وبغض النظر عن تقويمنا لتلك الاتفاقيات، لكنها شكلت في مراحل كثيرة ضابطاً قوياً لإيقاع الصراع في هضبة الجولان. من هنا تأتي خطورة، ومن ثم صعوبة أي تغيير في بنية العلاقات السائدة اليوم بين إسرائيل وسوريا، لكونه يحرك المياه الراكدة التي سيطرت على آليات العمل بتلك الاتفاقيات. فإسرائيل من جانبها، ستقف ضد أي تغيير من شأنه إحداث نقلة نوعية في النظام تخل بذلك الاستقرار الذي نعمت به، والأمر ذاته ينطبق على الجانب العربي الذي لا يقف في موقع يؤهله لتقبل أي تغيير، يقود إلى إعادة صياغة المعادلة المعمول بها اليوم، ما لم يضمن أن ذلك التغيير لن يلقي على عاتقه مسؤوليات جديدة غير متوقعة في آليات الصراع العربي الإسرائيلي.
وينقلنا الخلاف الإيراني العربي من مجرد ترتيب مسارات النظام السوري، إلى تداعيات أي تغيير في موازين القوى المتحكمة في تلك المسارات على ساحة الصراع العربي - الفارسي في منطقة الخليج، الذي أضيف إليه، كي يزيد الأمر تعقيداً البعد الطائفي المذهبي. فمن الطبيعي والمنطقي أيضاً، أن تسعى إيران للإبقاء على نظام الأسد، مهما بلغ من الهشاشة والضعف، وبالمقابل، تسعى الدول العربية، وفي المقدمة منها مصر متحالفة، بالتقاطع، مع دول مجلس التعاون، إلى الاستفادة من الفرصة السانحة للإطاحة بنظام الأسد والإتيان بآخر، إن لم يكن منحازاً للصف العربي، فعلى أدنى تقدير ليس متحالفاً مع الشريان الشيعي الذي تقوده إيران، بالتعاون مع قوى عربية متناثرة في العراق ولبنان.
هذه الفسيفساء السياسية بألوانها المتنوعة، من قومية، ودينية، وعرقية، لها حضور قوي اليوم في ساحة الصراع السورية، التي تزداد تعقيداتها، كما أشرنا، بفضل تنغم كل طرف منها مع حليفه الدولي، الذي هو الآخر لا يستطيع، بحكم مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية، أن يكون محايداً من مجريات الأحداث فيها. فأي انقلاب في موازين القوى، مهما كان طفيفاً في هذه المرحلة، سيترك بصماته القوية الواضحة على صورة الخارطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، في المستقبل المنظور كحد أدنى.
في ضوء تشخيصنا لتلك الصورة للصراعات المحتدمة، والتناقضات المتصاعدة، فوق الساحة السورية، نعود مرة أخرى لتحديد موقع ما أثارته مسألة «السلاح الكيماوي» فيها، والحيز الصحيح الذي يحتله ذلك السلاح في إطارها. هذا يجعلنا أمام مجموعة من السيناريوهات تنطلق أساساً من أن النظام السوري، وإذا افترضنا جدلاً أنه أصبح اليوم يمتلك من الأسلحة الكيماوية، ما يؤهله لاستخدامها، فمن غير المنطقي أن يقوم بذلك لأسباب لا تتعلق بالقيم الأخلاقية، ولا المسؤولية الوطنية، وإنما تقوم على منطلقات عسكرية محضة. فالخياران المتاحان أمام النظام للجوء إلى هذا الحل، في حال توهمه أن في وسعه الأخذ بواحد منهما كي يحسم الصراع لصالحه هما: إما استخدامه على نطاق واسع، وهنا، نظراً لصغر مساحة سوريا الجغرافية، وكثافتها السكانية، وتداخل المناطق المسيطر عليها بين النظام والمعارضة، سيصعب على النظام التحكم في النتائج المتوخاة كي تكون محصورة في صفوف أعدائه فقط. فمهما بلغ صغر مساحة الدائرة التي يحاول حصر من يطلق «السلاح الكيماوي» نطاق تأثيراته المدمرة في نطاقها، سيكون من الصعوبة بمكان التمييز بين أرض العدو وأرض الصديق، اللهم إلا إذا بلغ حمق النظام درجة الأخذ بمقولة «علي وعلى أعدائي يا رب»، وهو سلوك لم تعودنا عليه القيادة البعثية، طيلة مواجهتها للمعارضة التي واجهتها، بما فيها تلك المجزرة التي نفذها الأسد الأب في حماة في العقد السابع من القرن الماضي.
أما الخيار الآخر، فهو استخدام «السلاح الكيماوي» في نطاق ضيق جداً، وهنا ستكون تأثيراته العسكرية محدودة، ولا تستحق المجازفة، خاصة أنه في الحالتين، سيجد النظام نفسه أمام حملات معادية محلية وإقليمية ودولية، تحول بينه وبين استمرار زمرته الحالية في السلطة، ومن ثم تنتفي الحاجة والمبررات التي تشجع النظام على استخدام السلاح الكيماوي. المحصلة النهائية هنا أن النظام، بغض النظر عن حقيقة امتلاكه للسلاح الكيماوي، غير قادر على استخدامه في الظروف الحالية.
يرفع ذلك علامة استفهام كبيرة ومريبة تقول، لا يمكن أن تكون دوائر الاستخبارات في الغرب، وعلى وجه التحديد واشنطن، بعيدة عن هذا التقويم، وهي التي تمتلك معلومات دقيقة عن طبيعة ومستوى التسلح السوري، بما في ذلك ما يملكه من أسلحة كيماوية، فما الذي يدفعها لشن حملتها ضده مرتكزة على احتمال لجوئه إليه؟
تسعى الدوائر الغربية وراء حملة التجييش ضد النظام السوري إلى تحقيق الأهداف التالية:
1. تأليب الرأي العام العالمي ضده، وتهيئة الأوضاع الملائمة لإحداث التغيير المطلوب الذي ترسم معالمه اليوم الدوائر الغربية، مما يسهل عليها شق طريق يقود نحو تنفيذ أي مشروع تعده تلك الدوائر، التي لم يعد في وسعها اليوم، كما كان الأمر إبان الحقبة الاستعمارية، أن تسير العالم وفق هواها، ودون أي اعتبار للرأي العام العالمي، بما فيه ذلك الذي تمثله شعوبها. تحتاج آلات الحرب التي تسيرها تلك الدوائر اليوم، إلى من يبسط أراضي الرأي العام أمام جيوشها أو جيوش حلفائها، قبل أن تتلقى أي منها أوامر التحرك.
2. كسب الوقت، لترتيب ساحات شرق أوسطية أخرى أكثر إلحاحاً في هذه المرحلة، وتقف على رأس قائمتها مصر، التي يبدو أن أوراقها لاتزال في مرحلة الخلط التي تسبق الغربلة. وأكثر ما تتحاشاه الدوائر الغربية تكرار تجربتها في العراق وأفغانستان، التي لم تراعي فيهما دوائر البنتاغون مسألة ترتيب الأولويات، ولا تحاشي توزيع القوات. وإذا ما أضفنا إلى مصر، ما يجري على جبهة «قطاع غزة»، سنكتشف أن الإطاحة بالنظام السوري، بل حتى الترتيب النهائي للبيت السوري، لا تأتي في أولويات الدوائر الغربية، ومن ثم فمن المتوقع أن يكون المستقبل السوري شبيهاً، إلى حد بعيد، بما هو قائم اليوم، استمرار معارك الكر والفر دون الوصول إلى مرحلة الحسم النهائي، الذي لن يأتي قبل ترتيب، ولو بشكل مؤقت الأوضاع في مصر وغزة، واستنزاف القوى السورية كي تخضع، شاءت أم أبت للمشروع الغربي، إن هي أرادت البقاء في السلطة، التي ستتحول إلى هدف لتلك القوى، بدلاً من أي مشروع وطني آخر.