الحاكمية الرشيدة في القاموس السياسي المعاصر هي في المجمل المختصر ممارسة النفوذ الاقتصادي والسياسي والإداري لغاية تسيير الشأن العام من خلال آليات ومسارات وهياكل منتخبة تؤمن ترابط مصالح الأفراد والجماعات، وتمكينهم من ممارسة الحقوق المنصوص عليها بالدساتير، ومن أداء واجباتهم ومن اعتماد الحوار والتفاوض وسيلة لفض النزاعات. وتتضح الرؤية أكثر لمتصفّح التقارير الصادرة عن البنك العالمي حول نموذج الحكم الرشيد باعتماد رؤية استراتيجية بعيدة المدى، إشراك جميع مكونات المجتمع، احترام الشرعية وعلوية القانون، الشفافية الكاملة، تطوير القدرة على الاندماج، السعي إلى الوفاق الوطني، تحقيق العدل والمساواة أمام القانون، توفير حق المساءلة.
ولم يتوقف تحديد تعريف دقيق لمفهوم الحاكمية الرشيدة عند هذا الحدّ، بل تضاف إليه من حين لآخر بعض الجوانب الأخرى التي لا تقل أهمية عن المبادئ الأساسية منها، توفير ظرف سياسي ووضع اقتصادي وبنية اجتماعية مؤهلة للمشاركة الحقيقية في التسيير والاندماج والمنافسة، وتوفير جهاز إداري وقضائي ناجع وفعال ولا ممركز، واعتمــــاد الديمقراطيــــة واللامركزيـــة والحوار الاجتماعي، والحد من الفوارق بين المواطنين وحماية ذوي الاحتياجات الخاصة والدخل المحدود وتثمين رأس المـــال البشري ودعم قطاعــي التربية والتكوين وحماية المحيط بما يؤمن تنمية دائمة، ويتطلب النجاح في إرساء أسس وأدوات الحكم الرشيد اعتماد قوانين وقواعد يتحتم احترامها كضوابط ومعايير للديمقراطية والعدالة التي أجمع الفكر الحديث على كونيتها وتتلخص في مبادئ التعددية السياسية والحق النقابي ودورية الانتخابات بما يؤمن حق المواطن المقدس في المشاركة في صنع القرار الذي يهمّه أو يهم المجموعة التي يعيش ضمنها.
وهكذا يكتمل المشهد وتتحدّد بعض أوجه وآليات وغايات الحكم الرشيد من خلال عديد الأطراف المتدخلة ومن خلال محطات تاريخية متواصلة ليعتمد مبدأ الحكم الرشيد كمعيار رئيس في تقييم وترتيب ومساعدة الدول التي تروم النهوض بأوضاعها ومواكبة العولمة كمسار لا خيار لأي كان فيه.
إن فكرة دمقرطة الحياة السياسية أصبحت الركيزة الأساسية للحكم الرشيد في كل دول العالم خلال العقدين الآخرين وتسجّل، وتحقيق خطوات مهمة في التأسيس لمؤسسات دائمة وناجعة وفي مجال تطور قطاع التسيير العمومي والنظام القضائي وحماية حقوق الإنسان ودعم المجتمع المدني والسلم وتجنب النزاعات، بما يدعم الرفاه الاقتصادي والتنمية الدائمة ودعم ثقة الرأي العام في الجهاز الحكومي، ولذلك تطمح كل شعوب العالم إلى أن تنعم بسلطة تحترم الحقوق والكرامة من خلال عقد اجتماعي يهدف إلى تعبئة أفضل الطاقات والمزايا من أجل إدارة رشيدة لذلك ظلت طريقة تسيير الشأن العام هاجساً قائماً على مرّ العصور، وازداد الهاجس بريقاً في أواخر الألفية الماضية ليصبح هاجس المستقبلية ومطمحاً مشتركاً بل وضرورة تقتضيها المبادئ الكونية للحرية والنماء الدائم والعدل الديمقراطية.
وبقطع النظر أيضاً عن موقف حكومات الدول النامية، فإن استحقاق هاجسية الحكم الرشيد يعكس مطلباً شعبيّاً من الدرجة الأولى، إلا أن الإجماع حول أهمية وتأكد اعتماد مبدأ الحكم الرشيد لا يعني حتماً الاتفاق حول أطروحات وسبل تنفيذه لأن هذا الأخير ظل في ارتباط غير عفوي بالمصالح المباشرة لبعض الأطراف دون غيرها، بحيث لم ينفصل عن الواقع الاقتصادي وتحولاته ولا أدل على ذلك من أن عولمة الحكم الرشيد لم تكتمل ولم تنضج إلا باكتمال مشهد العولمة الاقتصادية وما ترتب عنها من إشكالات ونشر للفقر واتساع مساحته في العالم.
ومن هنا، ولأنّ العولمة الاقتصادية في حدّ ذاتها أفرزت عديد التحفظات والإشكاليات، فطبيعي أن يفرز طرح الحكم الرشيد نفس التداعيات لا سيما بالنسبة إلى عديد الدول التي تدفع دفعاً لاعتماد الرشد في الحكم بقطع النظر عن خصوصياتها والإشكاليات التي تواجهها، وموروثاتها الحضارية وتجاربها الديمقراطية المختلفة والتفاوت الواضح بينها من حيث النموّ، حيث بات من الواضح أن هذه الضغوط التي تمارسها بعض الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية من تحت مظلة هذا الشعار تعوزه البراءة والعفوية، ولذلك ظلت الوصفة الطيبة المقترحة من طرف أصحاب النفوذ، في شكل أقراص عصيّة الابتلاع على من وضعت له هذه الوصفة، ولذلك نتساءل:أي حكم رشيد نريد؟ وأي حكم رشيد نحتاج؟