تصريحات وأحاديث بعض رموز الجماعات الراديكالية والقوى السياسية المؤيدة لها لوسائل الإعلام المختلفة، خصوصاً تلك التي تتقاطع معها في التوجهات والأهداف حول أحداث البحرين الأخيرة، تكشف بوضوح أن هذه الجماعات ليس في قاموسها ما يوحي بأنها تريد وضع حد للإشكالية السياسية التي تسببت في إحداثها، وليس لديها النوايا الحسنة التي قد تولد شعوراً لدى الأطراف الأخرى في أنها تسعى نحو طريق حل هذه الإشكالية من خلال تقديم حلول واقعية تقبلها الحكومة والأطراف الأخرى المشاركة في العملية السياسية. إذ من الملاحظ على الخطاب السياسي والإعلامي لهذه الجماعات أنه يستخدم كلمات وعبارات كلها تصب في اتجاه واحد وتعبر في مجملها عن رفضها لكل التوجهات الحكومية والشعبية في معالجة الأزمة، ومحاولاتها الجادة في وضع نهاية لها.
في هذا السياق لا نقرأ فيه ولا نسمع منه إلا كلمات مثل «التفاف النظام» و»نكوص النظام»، و»النظام الحاكم» و»مماطلة النظام»، و»إعلام النظام».. وغيرها من الألفاظ التي تدل على أن هذه الجماعات والقوى السياسية لا تبدي حسن النية حيال النظام السياسي، بل نشعر أنها تضمر العداء له وتحلم بزواله في أي لحظة، بدليل أننا نجد أن خطابها مليء بأقذع الألفاظ الموجهة للنظام، بل إنها قد تجاوزت الحد في هذا الاتجاه حتى انحدرت في مستواها الأخلاقي إلى مستوى الشتيمة.
في تقديري أن مثل هذا السلوك ليس من الآداب والأعراف السياسية المتعارف عليها في العمل السياسي، وليس من سلوكيات المعارضة الوطنية، كما إنه لا يعطي انطباعاً لدى أصحاب القرار وفئات كثيرة في المجتمع البحريني أن هذه الجماعات تبحث بجد عن مخرج أو حل للأزمة السياسية أو أنهم ينشدون الإصلاح وهم معهم حق فيما يذهبون إليه، فمثل تلك الكلمات ليس لها سوى تفسير واحد وهو أن هذه الجماعات تريد تجريد السلطة السياسية من صلاحيتها الدستورية التي توافق عليها شعب البحرين، وبالمعنى الصريح إسقاطها وهم متفقون على هذا الهدف، وإذا كان هناك اختلاف بينهم فهو في الوسائل والأدوات التي تفضي إلى تحقيق تلك الغاية.
وبالنظر إلى هذه الجماعات وجد أن فئة منها تؤمن بنظرية التدرج في الوصول إلى الأهداف، وتعد الوفاق من أنصار هذه النظرية، ولديها محاولات في تطبيقها عبر إطلاق بعض المبادرات التي قد تبدو لأول وهلة أنها تصب في مجرى التعايش مع النظام مثل؛ المشاركة في البرلمان، وهذا يعني أنها تقبل بوجوده ولكن ضمن شروط معينة، ومن أهمها أن يقوم بإصلاحات في مكوناته، ونتيجة لهذا التكتيك السياسي قد تكون الوفاق مقبولة لدى البعض في الدولة.
مما يؤكد ما نذهب إليه هو أن بعض هؤلاء يرى في الوفاق بأنها يمكن أن تكون شريكاً في أي مسعى قد يقود إلى وضع سيناريو لنهاية الأزمة. أو بمعنى آخر أن التفاوض معها يكون أسهل من الجماعات الأخرى، لكن في الحقيقة أن الوفاق لا تختلف عن توأمها الذي يشترك معها في نفس الهدف إلا في الوسيلة؛ فهو يؤمن بنظرية حرق المراحل، لذا نجد هذه الفئة التي تطلق على نفسها «ائتلاف 14 فبراير» تميل إلى تغيير النظام وهم لا يتحرجون في الجهر بهذه السياسة ويعلنوها على الملأ وعلى عينك يا تاجر، هذا التيار الذي ينحدر في أصوله وتكوينه من «حركة أحرار البحرين» التي تتخذ من لندن مقراً لها، ويقيم بعض قادتها الآن في لبنان والعراق، وهي الحركة التي تقود دوامة العنف في قرى ومدن البحرين وهي نفسها التي خرج من رحمها الوفاق وحركتا «حق» و»وفاء».
وهناك شواهد عديدة تدل على أن هذا التيار لا يؤمن بإصلاح النظام ولا الجلوس معه على مائدة واحدة، لأنه في الأساس وكما جاء على لسان بعض قيادييه أنه لا يعترف به أصلاً، لذا لم نستغرب من رفع شعار «اسقاط النظام» في دوار مجلس التعاون إبان أزمة فبراير، كما إن رموزه القابعين في لندن لا يترددون في التعبير عن هدفهم وهو اسقاط النظام سواء كان ذلك في الفضائيات التي فتحت أشرعتها لاستضافتهم أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
وبالمناسبة فإن الجهر بهذا الهدف ليس وليد أزمة فبراير كما يعتقد البعض بل إنه قديم ويسبق هذه الفترة بكثير ومن أراد أن يتأكد من ذلك، فعليه أن يرجع إلى أدبيات هذه الحركة ويطلع عليها عن كثب ليتأكد بنفسه أن هذه الحركة تؤمن بالتغيير الراديكالي للسلطة وهنا يكمن الخطر في توجهاتها.
لو بحثنا في الفكر الذي تغذت منه هذه الحركة، سنجد أنها نهلت من منابع الفكر الصفوي الذي ظهر في إيران إبان عهد إسماعيل الصفوي والذي حكم إيران خلال الربع الأول من القرن الخامس عشر، وإلى الكتابات الأولى لمشايخ الدين اللبنانيين الذين قدموا من جبل عامل بلبنان واستوطنوا في إيران منذ القرن السادس عشر بناء على طلب حكام إيران آنذاك، وكان لكتاباتهم الدينية والسياسية أثر كبير على اتجاهات أتباعهم والتي نلمس نتائجها الآن في كل من العراق ولبنان والبحرين.
إذاً هذه الحركة التي قامت على التعصب الأيديولوجي هي التي أشعلت شوارع البحرين بالاحتجاجات والمظاهرات ولاتزال، وتسببت في العنف الذي دفع المجتمع البحريني نحو انقسام حاد وغذى أجواء الاحتقان والاستقطاب بما يجعلنا نخشى القادم من الأيام إذا ما استمرت هذه الحركة في غلوها وتطرفها. والسؤال الذي يطرح الآن هو؛ هل هناك رجاء أو أمل يمكن أن ننتظره من هؤلاء جميعاً ودون استثناء في أن يعملوا على وقف دوامة العنف والبدء في حوار جاد يفضي إلى طي صفحة الماضي، وهل يعتقد مؤيدو الحوار أن مثل هؤلاء يمكن الوثوق في دعواتهم؟
في رأيي أن الأرضية لاتزال غير ممهدة لمثل هذا الحوار؛ لأن أحد أطراف المعادلة لايزال يراهن على النظرية التي تقول إن حسم الصراع السياسي يتم عبر قوة الشارع ولذا نجد هذا الطرف لا يكف عن التحريض على العنف أو الفوضى، كما إنه أيضاً لايزال يعادي النظام ويستبدل كلمة الإصلاح بكلمة «الثورة»، ويرى فيها أنها الحل للأزمة السياسية، أما كلمة الإصلاح فإن أذنه لا تطرب لسماعها. من هنا نرى أن الحل في نظرنا يكمن أولاً في إقلاع الجماعات الراديكالية عن معاداة النظام السياسي، وثانياً إعلان هؤلاء بطلان النظرية السابقة، وثالثاً اقتناع هذه الجماعات أن الإصلاحات التدريجية هي النموذج الذي يمكن اعتماده في التغيير، فإذا ما تم ذلك، ساعتها يمكن القول إن حل الأزمة أصبح ممكناً.