ما أحلى الذكريات.. ذكريات الوطن.. ذكريات العمل.. ذكريات الصحبة.. ذكريات المطر.. كل هذه الذكريات تجمعت في أسبوع من أسابيع ديسمبر المجيد، فذكريات الوطن ضمها في صدره شهر ديسمبر المجيد، فمنذ 41 عاماً ونحن نحتفل في شهر ديسمبر من كل عام بعيد البحرين الوطني، هذا العيد العزيز على قلوبنا، الحبيب إلى نفوسنا، أبقاه الملك الوفي لوالده ليبقى عيداً وطنياً مهما تعاقبت الأجيال لأنه يذكر الجميع بعهد عيسى المجيد، وهاهو بوسلمان ومن حرم جامعة البحرين يطلق وقف التعليم العالي باسم وقف عيسى تخليداً لذكرى والد البحرين، وكم أنت بار بوالديك، بالأمس أعلنت وقف والدتك الخيري واليوم وقف والدك التعليمي العالي الخيري، أطال الله عمرك لتحقق كل طموحاتك ليحظى أبناء شعبك بالمزيد من فرص التعليم التي كانت عسيرة علينا نحن أبناء الأجيال السابقة، وجاء جلالتك ليكون التعليم سلسبيلاً سهل المنال لكل جاد ومجتهد لينهل من منابعه العذبة، فهنيئاً لك يا جيل حمد.
أما الذكريات فأيقظتها في نفسي زيارة لأحد المصارف للإدلاء ببعض المعلومات، وعند انتهائي من سرد المعلومات المطلوبة للموظفة، التي هي في سن حفيدتي، سألتني المسكينة؛ هل تجيد التوقيع أم تبصم؟ وا وبلاه يا لها من صدمة، في الواقع خرت دمعة من عيني وتغلبت على مشاعري وابتسمت، قلت أوقع، وقلت في نفسي أهذا الذي أمامك يا بنيتي قد علم البحرين من المحرق إلى الزلاق وتخرج على يديه سواء كان مدرساً أو سكرتيراً أو مديراً عدد من الوزراء والوكلاء والوكلاء المساعدين والمدراء لايزالون يمارسون وظائفهم.
مرت تلك الذكريات إلى أن حط بي الرحال في مجال آخر هو تدريس الفندقة حين أسست مركز الفندقة مع مجموعة من إخواني البحرينيين ثم مديراً للشؤون الإدارية والمالية في وزارة النفط والصناعة، ثم وكيلاً مساعداً للصناعة إلى أن تقاعدت تقاعداً مبكراً، وتسألينني إن كنت أجيد التوقيع؟ أيتها الدموع المتطفلة ارجعي إلى محاجرك.
كانت الفتاة قد شعرت بألمي من سؤالها فاعتذرت، فأردت أن أخفف عنها وقع سؤالها علي: قلت يا بنيتي توقيعي اليوم ليس توقيعي بالأمس عندما كنت مسؤولاً، أما الآن فتوقيعي لا يساوى شيئاً لسببين، الأول زال المنصب الذي كان يسنده، وثانياً أن رجفة الأصابع التي فرضها العمر قد أخلت شيئاً بالتوقيع لكبر السن، فالأولى أن اعتمد البصمة، هي أسلم من التوقيع الذي طالما أرجع أوراقي البنك عدة مرات لاختلاف التوقيع بين الأمس واليوم.
أما ذكريات الصحبة، فأين هم أصحاب الأمس، اختطف معظمهم ملك الموت وتركوني وحيداً بين حطام الدنيا، نسيني منهم من هو على قيد الحياة، بل وتنكر لوجودي أحدهم بقوله لست مني، وتهرب عن الرد على مكالماتي آخر لأنه وصل إلى منصب كان يحلم به، فوجد نفسه في برج عالٍ، أقول له لقد اعتليت ذلك العرش في زمن ما من أزمنتي لكنه طار مني لآخر وسيطير منك أنت أيضاً، فلا يبقى للإنسان إن كان حياً إلا ذكرياته الجميلة مع الآخرين وإن كان سيئاً فقلما يتذكره البعض بشيء من الذكريات في بداية رحيله، وما أن يطول الرحيل حتى تبتعد مسافات البعد فيطويه النسيان كما نسي غيره، فهذه سنة الحياة فلا تغرنك الحياة الدنيا فإنها إلى زوال، فأنت لست أقوى من الشمس التي تبزغ قوية تبدد ظلام الليل لكن ما أن يحل المساء حتى تذوي ويخنقها الظلام، فقد تقع في قبضة التقاعد فيفغصك بقبضة خانقة من يديه، فيأتيك الموت يتهادى ليغيض روحك ويودعك أقرب الأقربين في تلك الحفرة لتطبق عليك حتى يوم القيامة.
وفي اليوم السادس عشر من شهر ديسمبر عيد البحرين الوطني امتاز هذا اليوم المجيد بأكثر من مناسبة أجمل ما في ذلك المطر الذي انهمر مدراراً خلال ذلك اليوم وليلته، وكأنه يراقص الشباب الذين ملؤوا شوارع البحرين المتلألئة بالأنوار الحمراء والبيضاء المعبرة عن علم البحرين المجيد، ويا فرح الشباب الذي رقص في الشوارع وملأها أناشيد جميلة وهتافات وطنية وفرحاً هديراً ينطلق من الحناجر الشابة ليعانق المطر في عيد الوطن، وكأن السماء تهتف عاش حمد.. عاش بوسلمان عاش عز الوطن.
هكذا كانت البحرين يوم 16 و17، غنت.. رقصت.. تعانق الشباب زغردت النسوة هتفوا لحمد وخليفة وسلمان.. توقفت السيارات بسبب الزحمة لكن الأعصاب لم تنفلت من عقالها كما يقولون.. بل زادت نشوة وكأن القوم احتسوا براميل من النبيذ.. حتى الرعد لم يزعج المطر.. بل أخذ المطر يهطل وكأنه خيوط من ذهب أوتار قيثار تعزف أعذب الألحان وتغازلها أبواق السيارات بأنغام عاش حمد.. عاش حمد.. عاش حمد وعاشت أم الدنيا البحرين، أرجو من الله أن يديم أفراح البحرين ويهدي أولئك الأحبة الذين امتنعوا عن مشاركتنا فرحتنا.. فرحة كل أبناء البحرين بدون استثناء وكل البحرينيين وكل عام والجميع بخير.