فيما كان وزراء الخارجية العرب يتوافدون لعقد اجتماعهم للتداول بشأن ما يجري في غزة، كانت الطائرات الإسرائيلية تواصل حصدها للمزيد من ضحايا غاراتها على أهل غزة وسكانها، ليصل عدد الشهداء الفلسطينيين وفي غضون أيام معدودة «حتى كتابة هذه السطور» إلى 45 شهيداً، يضاف إليهم نحو 370 جريحاً، ومعهم آلاف المشردين ممن هدمت قذائف تلك الطائرات منازلهم.
لقد عول كثيرون ممن تفاءلوا بمؤتمر وزراء الخارجية العرب على أن يأتي ذلك المؤتمر بشيء جديد مختلف نوعياً في مسارات الصراع العربي - الإسرائيلي، بانين أوهامهم على الفرضيات المستجدة حالياً على ذلك الصراع:
الأولى في تلك الفرضيات هو أنه يأتي بعد حسم الأمور في مجموعة من البلدان العربية التي هبت عليها رياح ما أصبح يعرف باسم «الربيع العربي»، ووصول قادة جدد إلى سدة الحكم، الأمر الذي يتيح أمامهم فرصة الابتعاد ولو بمسافة قصيرة عن تلك القيود التي تكبل الأنظمة المطاح بها في سياساتها من ذلك الصراع، ويفتح لتلك القيادات نافذة بوسعها الاستفادة منها لاتخاذ قرارات أكثر جرأة لصالح الطرف الفلسطيني في ذلك الصراع، خصوصاً أن القوى التي آلت إليها السلطات في تلك البلدان تنتمي إلى الإسلام السياسي الذي يضيف بعداً دينياً إلى ذلك القومي في الصراع العربي الإسرائيلي.
أما الثانية؛ فهي أن الغزوة الإسرائيلية تأتي بعد أن قالت صناديق الاقتراع للانتخابات الرئاسية الأمريكية كلمتها وفاز الديمقراطيون فيها، ووصل باراك أوباما إلى البيت الأبيض مرة أخرى، ومن ثم فلم يعد هناك من مبرر للقادة العرب بالتهاون في اتخاذ موقف صحيح من العربدة الإسرائيلية تحت مقولات واهية تستند في ادعاء الحرص على ترجيح كفة مرشح على آخر. هذا إذا افترضنا سلفا أن للكلمة العربية ثقل في موازين القوى الضالعة في تلك الانتخابات.
وتأتي الثالثة؛ كي تضع بين أيدي وزراء الخارجية العرب، إن هم شاءوا ذلك، ورقة قوية يمكن استخدامها لصالح أي مشروع مناهض للبربرية الصهيونية، وهو الوحشية التي نفذت بها إسرائيل تلك الغارة والتي وصفتها البيانات العربية التي أعقبتها بالمجزرة، كما ورد على سبيل المثال في البيان المصري - التركي المشترك حيث «شدد الرئيس المصري محمد مرسي ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، خلال لقائهما في القاهرة، أمس، على ضرورة وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وبحثا العلاقات الثنائية خاصة في المجال الاقتصادي، ودعا أردوغان إلى محاسبة إسرائيل عن المجزرة بحق الأطفال الأبرياء».
رغم كل ذلك، فقد شاهد، وسمع أيضاً من تابع وقائع ذلك الاجتماع، كما نقلته وسائل الإعلام المختلفة، فزعة عربية لا تخرج عن سلوك البداوة المعهود في مثل تلك الاجتماعات العربية، التي تزاوجت فيها الخطب العنترية، مع عبارات جلد الذات، المشوبة بالكثير من التعاطف مع القضية الفلسطينية، انتهت إلى بيان ختامي، لا يختلف في جوهره عن بيانات أخرى رددت أصداءها ردهات القاعات التي يجتمع فيها القادة العرب.
ولو اعتبرنا كلمة أمين عام الجامعة العربية نبيل العربي تلخيصاً لذلك البيان الذي اشتمل على 12 بنداً، لوجدنا أن القادة العرب يواصلون اجترار قرارات تستمع بقرض الأوراق التي دونت عليها جرذان مستودعات أرشيف جامعة الدول العربية. فبعد أن طالب العربي «بإعادة تقييم الموقف الرسمي العربي تجاه الصراع مع إسرائيل وإجراء مراجعة لكافة المبادرات والمواقف في هذا الملف، خصوصاً في ظل المرحلة الراهنة والتغييرات المتصاعدة في المنطق»، طالب المسؤولين العرب بضرورة «إجراء إعادة تقييم ومراجعة شاملة لمعالجة القضية»، ودعاهم «لمراجعة الخيارات المعتمدة والآليات العقيمة في حل هذا النزاع» وشدد على «أهمية أن يتم ذلك بشكل متكامل فنحن لا نستطيع أن نقبل الجمود الحالي». وأنهى كلمته بتساؤل حاول من خلاله تبرئة الذمة قائلاً «في ظل التعنت الإسرائيلي والتواطؤ الدولي والعجز العربي ما جدوى عملية السلام، وجدوى رعاية اللجنة الرباعية والمبادرات العربية»، مكرراً اقتراحاً لاكته ألسن القادة العرب، وملته الشعوب العربي، عندما رأى ضرورة «تشكيل لجنة لإعادة النظر في جميع المبادرات السابقة مطالباً بتنسيق عربي فوري لتحديد الموقف وإنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة».
يتناغم ما جاء في كلمة العربي ويتكامل بيان «فزعة» الوزراء العرب الذي اشتمل على 12 نقطة استهلت بـ «الإدانة الشديدة للعدوان الإسرائيلي الوحشي ضد المدنيين في قطاع غزة، والذي يمثل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، والمطالبة بوقفه فوراً وبعدم تكراره وتحميل إسرائيل المسؤولية الكاملة عن كافة الأضرار البشرية والمادية التي لحقت بالشعب الفلسطيني جراء هذا العدوان الغاشم، ومطالبة الدول العربية بتوفير احتياجات قطاع غزة الإنسانية كافة وبصفةٍ عاجلة من المساعدات الغذائية والأدوية والمعدات الطبية لعلاج الجرحى والمصابين.
الإعراب عن الاستياء التام تجاه إخفاق مجلس الأمن في اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ووقف الاغتيالات للقيادات الفلسطينية وتوفير الحماية للشعب الفلسطيني، ودعوته إلى تحمل مسؤولياته المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة لحفظ الأمن والسلم الدوليين واتخاذ التدابير الكفيلة بردع دولة الاحتلال عن مواصلة هذا العدوان ومحاسبتها عن ما ارتكبته من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والعمل على ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين وتقديمهم للعدالة».
من يقرأ ذلك البيان بتمعن لا يملك إلا أن تساؤلات قد تبدو ساذجة في نظر البعض، وربما يعتبرها البعض الآخر غبية ومتكررة، لكن لا بد من إثارتها:
أولها هل يجدي محاربة الغزوات العسكرية، التي تستخدم أكثر النظم الحربية تقدما، سواء من حيث الأسلحة والمعدات، أو على مستوى البرمجيات واللوجستيات، ببيان تسيطر عليه ردود فعل بدوية أكثر منها مخططا علميا يقوم على تقصي الحقائق، واستخدامها لدراسة الواقع، من أجل الخروج ببرنامج مواجهة صحيح قابل للتطبيق، وقادر على المواجهة.
ثانيها، كيف بوسع الضعيف أن يعين من هو أضعف منه. فإن كان الفلسطينيون اليوم ضعفاء عندما تقاس موازين القوى، فلن تضيف المشاركة العربية عاملاً يغير من تلك الموازين لصالح الطرف الفلسطيني. فإمكانات العرب ما تزال مرهونة لغيرهم، بما في ذلك قرار مواجهة العدوان الصهيوني.
الأخطر من ذلك، هو غياب أي شكل من أشكال التنسيق العربي، كي لا نقول الوحدة العربية. فحتى أيام قليلة كانت الجبهة الفلسطينية ذاتها، دع عنك شقيقتها العربية، متصدعة. تكفي الإشارة إلى الإدانات الفلسطينية التي أعقبت مقابلة الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع إحدى المحطات الإسرائيلية، والتي كادت أن تؤدي إلى حرب أهلية بين الفصائل الفلسطينية.
في اختصار شديد الصراع العربي الإسرائيلي معقد، ويستمد آليات استمراره من مجموعة عوامل قوية وراسخة، البعض منها ديني، والآخر اقتصادي، والكثير منها سياسي، وفوقها جميعا هناك مصالح الدول الكبرى، ولا يمكن تحقيق تغيير في موازين القوى لصالح الطرف الفلسطيني بفزعة بدوية كتلك التي شهدتها الجامعة لعربية.
لقد تقدم العالم، وما نزال نحن العرب نقاتل بسيوف عنترة بن شداد، ورماح سيف بن ذي يزن ونخاطب الآخرين بمعلقات زهير بن أبي سلمى وأشعار طرفة بن العبد.