إذا استثنينا المظاهرات المنظمة التي «خرج فيها عشرات الآلاف من الإيرانيين يوم الجمعة الموافق 16 نوفمبر 2011، في جميع أنحاء البلاد، ضد الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة»، لإدانة ما وصفوه بالجرائم الصهيونية ضد الأبرياء في غزة، مرددين «الموت لإسرائيل» و«الموت لأمريكا»، ومعربين من خلاله عن تضامنهم مع الفلسطينيين بترديد هتاف «بيتك هو بيتي»، سوية مع إدانة وزارة الخارجية الإيرانية لذلك الهجوم الذي وصفته بـ»الإرهاب المنظم»، بعد أن انتقدت المجتمع الدولي لسكوته عليه، وإعراب وزير الخارجية الإيرانية علي أكبر صالحي «عن استعداده للتوجّه إلى قطاع غزة»، مؤكداً «دعم بلاده للمقاومة الفلسطينية في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية»، ومطالبة نائب رئيس ممثلية الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الأمم المتحدة إسحاق آل حبيب «الأوساط الدولية ومجلس الأمن بالتحرك الفوري والعملي لإرغام الكيان الإسرائيلي على وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية وإنهاء الحصار المفروض على قطاع غزة»، وما جاء على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية رامين مهمان باراست الذي أكد على أن إيران «تعتبر العمل الإجرامي الذي ارتكبته القوات العسكرية الإسرائيلية من قتل للمدنيين جريمة منظمة وتدينه بشدة»، فيمكننا القول إن رد الفعل الإيراني لم يرق إلى ما كان متوقعاً منها.
ما يدفعنا إلى هذا القول ليس الانتقاص من الموقف الإيراني من القضية الفلسطينية ولا التشكيك فيه، خصوصاً أنه لم يتجاوزه أي من مواقف الدول العربية، بقدر ما هو الدعوة للبحث عن الأسباب الكامنة وراءه، خاصة وأن الهجوم الإسرائيلي السافر على غزة والوحشية التي رافقته كانا سبباً كافياً يبرر رفع إيران سقف مواقفها ضد ذلك الهجوم إلى ما هو أعلى من مجرد الشجب اللفظي، لما في ذلك من خدمة لمشاريعها في المنطقة والأهداف الكامنة وراءها بفضل الأسباب التالية:
1. تعزيز مواقف إيران المناهضة لإسرائيل ومن ثم إتاحة الفرصة أمامها من أجل مطالبة «حماس» ومن بعدها «حزب الله» اللبناني بمشاركة إيران في أية مواجهة قادمة محتملة مع إسرائيل فيما لو أقدمت هذه الأخيرة على ضرب المفاعل النووي الإيراني. حيث يشكل الاثنان وبشكل متكامل كماشة عسكرية في خطوط متقدمة بإمكانها إقلاق المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وتشكيل خطر مهما كان محدوداً على إسرائيل في حال نشوب حرب بينها وبين إيران.
2. تقوية الجناح الأكثر ميلاً لإيران مقابل -كما ورد في بعض ما تناقلته وسائل الإعلام- «ذلك الأكثر انفتاحاً على جماعة الإخوان في مصر والحكومة القطرية»، الأمر الذي دفع القيادي في حركة «حماس» محمود الزهار إلى القيام في سبتمبر 2012 بزيارة خاطفة إلى جنوب لبنان كي يلتقي بقيادات في حزب الله، ويتبعها بأخرى إلى طهران، ساعياً من ورائها إلى الوصول إلى حل وسطي يوقف الخلاف المنذر بالاتساع بين حماس «الداخل»، الأشد تركيزاً على الأوضاع الفلسطينية الداخلية، وحماس «الخارج» الأكثر قرباً إلى مصر وقطر والمنغمسة في الصراعات القائمة على الساحة السورية. واعترف الزهار خلال تلك المحادثات التي أجراها مع حزب الله والقادة الإيرانيين، كما ذكرت تلك المصادر أن «حماس الآن أصبحت في واقع الحال «حماسين»، واحدة مرتبطة بالمقاومة التي تشكل همها الأول والأخير ونمثلها نحن في غزة، وأخرى في الخارج مرتبطة بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين وبالرئيس المصري محمد مرسي والحكومة القطرية، ويمثلها خالد مشعل وموسى أبو مرزوق».
3. الاستفادة من ورقة دعمها الفلسطينية في إعادة المياه إلى مجاريها مع بعض الدول العربية، وعلى وجه التحديد الخليجية منها، بعد أن عكرت صفوها الاستعراضات العسكرية الإيرانية وما صاحبها من تصعيد إعلامي بشأن الجزر العربية المحتلة، وكادت أن توصل الأمور إلى نقطة اللاعودة بشأن تلك العلاقات، وهو أمر باتت إيران في أمس الحاجة لإصلاحه فيما لو أقدمت إسرائيل، وهو خيار لم يعد مستبعداً اليوم، على شن هجمات على المواقع النووية الإيرانية.
4. الاستفادة من تصعيد الصراع في الأراضي المحتلة، وما يرافقه من انعكاسات على الساحة السياسية لتخفيف الضغط على حلفائها في الساحة السورية كي يستعيدوا أنفاسهم، بعد أن بدأت الحلقة تضيق الخناق على النظام هناك، خصوصاً بعد مؤتمر الدوحة الذي بغض النظر عن نتائجه المتواضعة، لكنه أضاف بعداً جديداً للصراع السوري لا يصب في صالح بشار وحلفائه ومن بينهم إيران.
كل هذه الأسباب لم تكن كافية كي تدفع إيران لتصعيد موقفها، بعض المصادر تفسر ذلك الموقف الإيراني «المرن» على أنه تحاشى الدخول في مواجهة مع إسرائيل تكون بدايتها الانجرار إلى موقف أكثر من مجرد تضامن إعلامي شاجب للعدوان الإسرائيلي، ومشيد بالرد الفلسطيني ومؤيد له.
الحذر الإيراني المشوب بالخشية من رد الفعل الإسرائيلي يعود في بعض جوانبه إلى التسريبات الإعلامية التي باتت تروج لها بعض المواقع الإخبارية ذات الارتباط المباشر أو غير المباشر بدوائر صنع القرار الأمريكي، بل وحتى الإسرائيلي من أمثال موقع «إكزامنر» الإخباري من أن إيران قد «نجحت في إقامة جسر قوي لتهريب الأسلحة إلى قطاع غزة عبر السودان وشبه جزيرة سيناء، حيث أنشأت المخابرات الإيرانية شبكة من المهربين والبدو الذين يتعاونون معها، وأن هناك المئات من الصواريخ قصيرة المدى التي يتراوح مداها بين «20-40 كيلومتراً» إضافة إلى ما يزيد عن 1000 قذيفة مورتر، وكذلك القذائف المتطورة المضادة للدبابات والمدرعات، قد عرفت طريقها إلى داخل قطاع غزة عبر سيناء».
وكما يبدو فإن ذاكرة طهران لاتزال تحتفظ باتهامات أطلقها ضدها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أواخر شهر أكتوبر 2012، أشار فيها إلى «إيران تدعم الهجمات التي تطلق من قطاع غزة على جنوب إسرائيل، مضيفاً اليوم نواجه عدواناً يأتي من حدودنا الجنوبية مع قطاع غزة ولكن مصدره هو إيران، وشبكة إرهابية كاملة تدعم هذه الاعتداءات، مضيفاً، أن إيران دعمت العمليات الإرهابية التي نفذها حزب الله في بلغاريا، في إشارة إلى الهجوم الانتحاري في مطار بورغاس البلغاري الذي قتل فيه خمسة سياح إسرائيليون إضافة إلى سائق الحافلة والانتحاري».
من هنا فليس من المستبعد أن يكون بعض الأسباب الكامنة وراء تلك الحملة العسكرية على غزة، والتي تنذر إسرائيل بتوسعها كي تصل إلى مستوى الحرب بالمعنى التقني لهذه الكلمة، هي جس نبض دولتين الأولى عربية وهي مصر، والثانية إقليمية وهي إيران، وفي ما يتعلق بالثانية؛ تبحث إسرائيل عن سبب يبرر لها بعد أن تلقت تحذيراً واضحاً من واشنطن يمنعها من الإقدام بشكل منفرد على ضرب المفاعل النووي الإيراني، اتخاذ قرار فردي مستقل، وتوجيه ضربة سريعة للمفاعل النووي الإيراني، فيما لو خلقت على أرض المنطقة الظروف الملائمة التي تبيح لها ذلك. من هنا ربما تعمدت إيران أن يكون ردها محسوباً بدقة وعناية كي لا تجر إلى حرب مع إسرائيل ليست هي اليوم مستعدة لها، فتخسر حرباً إن لم تكن ساحتها إيران، فمن غير المستبعد أن تكون دمشق في وقت ليس في وسع طهران التضحية بأي منهما.