في تحد متوقع تجاهل فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي كل الشجب الدولي لاستمرار إسرائيل في بناء المستوطنات، صرح بنيامين نتنياهو أمام الاجتماع الأسبوعي لحكومته قائلاً «سنواصل البناء في القدس وفي كل الأماكن التي على خريطة المصالح الاستراتيجية لإسرائيل». وجاء ذلك مرافقاً لقرار صهيوني آخر يقضي بتوقف تل أبيب عن «تحويل عائدات الضرائب للسلطة الفلسطينية لهذا الشهر (نوفمبر 2012) والتي تبلغ نحو 100 مليون دولار».
ولم يقتصر الأمر على مواقف نتنياهو فحسب، بل يبدو أن هذه الأخيرة تأتي في سياق موقف صهيوني متكامل، إذ أكد وزير المال يوفال شتاينتس «أنه لا ينوي تحويل عائدات الضرائب المستحقة للسلطة الفلسطينية رداً على الاعتراف بفلسطين دولة مراقب غير عضو بالأمم المتحدة. وأنه سيتم استخدام هذه الأموال لسداد ديون مترتبة على السلطة لجهات إسرائيلية».
كما وأصدر مجلس الوزراء « قراراً بالإجماع برفض قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، معتبرا «قرار الجمعية العامة لن يكون أساساً لأي مفاوضات مستقبلية ولن ينال من حقوق إسرائيل على أراضيها».
تزامن هذان الحدثان: الاعتراف الدولي بفلسطين «كدولة بصفة عضو مراقب» من جهة، والشجب الدولي لردة الفعل العنجهية الإسرائيلية من جهة ثانية. لكن في ثنايا جميع المواقف كان هناك موقفان ملفتان للنظر هما الموقف الأمريكي والبريطاني.
فبينما أكد وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ «أن بلاده ستمتنع عن التصويت على الأرجح في التصويت على رفع تمثيل فلسطين في الأمم المتحدة، مضيفاً أن بريطانيا لن تعارض طلب الفلسطينيين برفع تمثيلهم إلى «دولة مراقب غير عضو» في المنظمة الدولية، لكنه اشترط أن يكون هناك عدد من الضمانات، أبرزها أن يعلنوا التزاماً واضحاً بأنهم سيسعون إلى التفاوض مع إسرائيل دون أي شروط مسبقة»، وهو ما نفذه بحذافيره المندوب البريطاني في الأمم المتحدة، وجدنا أيضا المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند، هي الأخرى تؤكد من جانبها «أننا نختلف مع أقدم حلفائنا بشأن هذه القضية، وهم على علم بذلك. ولكنه قرارهم السيادي وهم من يختارون كيف يمضون قدماً، مشيرة إلى أنه إذا طرح الأمر للتصويت في الجمعية العامة هذا الأسبوع، فإن الولايات المتحدة ستصوت ضد الطلب الفلسطيني، الذي تعتبره واشنطن خطأ». وهو ما التزمت به واشنطن عند التصويت على قرار طلب العضوية الفلسطينية.
وبخلاف فلسطين، هناك اليوم في الأمم المتحدة دولة الفاتيكان المسيحية التي تتمتع بصفة مماثلة. وقد عرفت العضوية الفلسطينية مشواراً طويلاً في دهاليز الأمم المتحدة، فقد انتقلت صفة منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تتمتع بها في الأمم المتحدة منذ العام 1974 من «كيان بصفة مراقب»، إلى ما أصبح يعرف بمسمى «بعثة المراقبة الدائمة لفلسطين» بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1988.
ربما يبدو هناك شيء من التناقض في السياسة الأمريكية – البريطانية عندما يقارن موقفاهما السلبي إزاء فلسطين عند التصويت على طلبها العضوية المراقبة في الأمم المتحدة من جانب، ثم شجبهما استمرار إسرائيل في سياستها الاستيطانية من جانب آخر. فقد استدعت لندن سفير إسرائيل لديها كي تعبر له رسمياً عن «احتجاجها على مشروع الاستيطان الجديد في القدس والضفة الغربية». وعلى نحو مواز، وكما تناقلت وسائل الإعلام، فقد نددت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، «بالمشروع الإسرائيلي لبناء وحدات استيطانية جديدة، معتبرة أن هذا الأمر يؤدى إلى تراجع قضية السلام» مع الفلسطينيين»، قائلة في مؤتمر صحافي في واشنطن، وبحضور وزراء إسرائيليين «دعوني أكرر أن هذه الإدارة، على غرار الإدارات السابقة، أبلغت إسرائيل بوضوح شديد أن هذه الأنشطة لتوسيع المستوطنات تؤدى إلى تراجع قضية سلام يتم التفاوض في شأنه بين إسرائيل والفلسطينيين».
لكن إعادة النظر في موقفي الدولتين، يكشف اتساقهما، ومن ثم تكاملهما، بل وانسجامهما مع السياسة الأنجلو – أمريكية من قضايا الشرق الأوسط عموماً، والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، في مراحله الحالية خصوصاً، فليس هناك من تناقض جوهري في المصالح بين الامتناع عن التصويت لصالح العضوية الفلسطينية، ثم الشجب العلني لسياسة الاستيطان الصهيونية، إذ إن هناك أسباباً تتعلق باستراتيجية الدولتين من تلك القضايا، يمكن الإشارة إلى الأربعة الأهم فيها.
الأول هو أنه بينما سياسة الشجب، رغم أهمية الجانب الإعلامي، لكنها لا تترك أثرا على أرض الواقع، ولا تغير شيئاً من موازين القوى على ساحة الصراع، وعمرها الزمني قصير للغاية. ومن ثم، فهي وإن كانت ستثير حفيظة صقور المؤسسة الصهيونية، لكنها غير مفيدة، على مستوى الفعل للطرف الفلسطيني، ناهيك أنها قابلة للتغيير السريع، فيما لو استدعت الظروف ذلك.
أما السبب الثاني، فهو أنه بعد أن فشلت واشنطن ولندن في كسر موجة الانتصار الدبلوماسي الفلسطيني في الأمم المتحدة بالتصويت السلبي والذي اعتبره الكثير من الدوائر السياسية بمثابة « لطمة عنيفة علي وجه الدبلوماسية الأمريكية والإسرائيلية»، كان عليهما السعي لتبييض صفحتهما في أروقة الدبلوماسية العربية، بالإعراب عن موقف «إنساني» لصالح الطرف الفلسطيني في صراعه الوجودي مع إسرائيل.
ويعود السبب الثالث إلى سعي العاصمتين إلى لجم السلطة الفلسطينية من استخدام تلك العضوية التي تمنح فلسطين وضعاً جديداً متقدماً يبيح لها الارتقاء بأشكال المواجهة الدولية إلى رفع قضية ضد الدولة العبرية إلى المحكمة الجنائية الدولية، من أجل «ملاحقة جنرالاتها عن جرائم حرب وإدانة بناء المستوطنات وفقاً لمواثيق جنيف». ومن ثم يأتي الشجب الأنجلو – سكسوني، كمبادرة على حسن النوايا التي تتوقع ثمناً مقابلاً يمارس ضغطاً على الدول العربية، كي تسعى بدورها لإقناع الطرف الفلسطيني بعدم استخدام مثل هذه الأوراق.
أما السبب الرابع، وهو الأهم بينها جميعا، فينبع من سعي العاصمتين لكسب الأطراف العربية التي تريدها أن تكون بين صفوفها حين تقدم على أية خطوة تجاه الوضع الشائك المعقد في سوريا، والذي لم يعد في الوسع استمراره لفترة أطول. مثل هذا الحسم، دون الحاجة إلى الدخول في تفاصيل نتائجه، لن يكون في كل الأحوال في صالح المحور السوري – الإيراني، الأمر الذي يقتضي، كما ترى العاصمتان، ضرورة وجود حليف دولي لهما تقع على عاتقه مسؤوليتان: توفير الغطاء المحلي الذي يسكت أية معارضة يمكن أن تمس المشروع من جانب، والمساهمة، المالية واللوجستية التي يصعب على أي من العاصمتين، أو كلتيهما سوية تحمل أتعابه، وتلبية متطلباته. وبالتالي، فطالما لم يكن أمام واشنطن ولندن من خيار، بحكم تحالفهما التاريخي الاستراتيجي مع تل أبيب، سوى التصويت في الأمم المتحدة لصالح المشروع الصهيوني، كان عليهما أيضاً، إن شاءتا عدم استفزاز الدول العربية، وكسبها إلى جانبهما في مشروعهما الشرق الأوسطي المقبل، أن يشجبا سياسة التوسع الاستيطان الصهيوني.