بعد إلقاء الضوء على عناصر القوة وتشخيص مكامن الضعف في مسيرة دول مجلس التعاون العربي، أو بالأحرى مشوار مشاريع بناء اتحاد خليجي، نلتفت، من أجل استكمال إطار الصورة، نحو الفرص المتاحة أمام دول المجلس والأخطار المحدقة بها ككتلة سياسية واحدة.
أما بالنسبة للأخطار، ففي وسع من يتابع مسيرة الاتحاد أن يرصد الأكثر مداهمة من بينها في النقاط التالية:
1. أشد الأخطار المحدقة بالاتحاد مصدره التنافس بين الدول واشتداده كي يصل في حالات كثيرة إلى تناقض في السياسات تمس جوهر الفكرة الاتحادية وتكاد تئدها. إذ لاتزال روح المنافسة والاستئثار القطري بالسلطة، بعيداً عن التصريحات الرسمية، هو السائد في سياسات معظم، دول الاتحاد. يعود البعض منه للتفاوت في ثروات كل من تلك الدول على حدة، ويعود البعض الآخر إلى خلفيات تاريخية رافقت التطور السياسي لمنطقة الخليج العربي. محصلة ذلك تنامي هشاشة عظام الهيكل السياسي للبناء الاتحادي.
2. الأطماع الدولية، وعلى وجه الخصوص الأمريكية منها، إذ لاتزال تحكم سياسات تلك الدول تجاه هذه المنطقة نزعة التحكم في أوضاعها السياسية، من أجل السيطرة على ثرواتها الطبيعية، وفي المقدمة منها النفط. وتسير تلك الأطماع، التي تولد الأخطار التي نتحدث عنها في طريق ذي اتجاهين. فمن جهة هناك الهيمنة على السياسات النفطية، لضمان تدفقه للغرب، بالكميات التي تلبي رغباتهم الجشعة، وفي الاتجاه الثاني إعادة سلب أموال المنطقة المتأتية من النفط في شكل صفقات تسلح لا يبررها سوى استنزاف ثروات المنطقة المالية لتمويل الصناعة الحربية في الغرب.
3. المنافسة الإقليمية، وعلى وجه التحديد تلك القادمة من طهران، والقائمة أساساً على تناسٍ عرقي بين الفرس والعرب. فحتى طهران لا تنكر، وتشهد على ذلك سياستها الخارجية، أنها في تنافس محموم مع دول الضفة الغربية من الخليج العربي، وسباق تاريخي على من يتزعم هذه المنطقة، وتكون له الكلمة الأولى في تحديد ملامح صورتها السياسية. تفاقم هذا التنافس، بعد نجاح الثورة في إيران، حيث أخذ الصراع بعداً طائفياً يقوم على الخلافات المذهبية بين الاجتهادات السُنية والشيعية ليس في تفسير الماضي، وإنما في صياغة سياسات الحاضر. ومن الطبيعي أن ترى طهران في قيام كتلة عربية – سُنية تحد من شأنه، متى ما تنامى، أن يخل بالتوازن في غير صالحها، مقارنة بما كان الحال عليه قبل ذلك عندما كانت دول مجلس التعاون بعيدة عن أي كيان سياسي يلم شملها، مهما كان هذا الكيان هشاً.
4. مخاوف الدول العربية الأخرى، التي رأت في الاتحاد، وعبرت بخجل في مراحل معينة، وفي سياسات هجومية في مراحل أخرى، نوعاً من التحدي غير المباشر لمكانتها في الصف العربي. عبرت عن ذلك عواصم مثل القاهرة ودمشق وبغداد، عندما عبرت كل منها على حدة عن رغبة في تزعم الكتلة العربية. وليس التنافس على مقعد هيئة «اليونيسكو» بين الوزيرين السعودي غازي القصيبي رحمه الله، والمصري فاروق حسني، إلا إحدى العلامات الواضحة على طريق ذلك التنافس. ينبغي التمييز بين هذا التنافس داخل الأسرة العربية الواحدة من جانب، وتلك الأطماع الخارجية الإقليمية والدولية من جانب آخر.
ومن الأخطار ننتقل إلى الفرص التي تدفع الدول الخليجية نحو التوحد وتعزيز أركان مجلس التعاون الخليجي، والتي يمكن حصر الأكثر إمكانية من بينها، في النقاط التالية:
1. الاتجاه العالمي نحو التكتل المستمد قوته من الأوضاع الدولية التي أفرزها تهاوي الاتحاد السوفيتي، وبروز نزعات بناء محاور إقليمية، سواء في آسيا، كما عبر عنها تكتل بعض الدول الآسيوية، فيما يعرف بــ»آسيان»، أو أمريكا اللاتينية، وسبقهما بطبيعة الحال تشكل الاتحاد الأوروبي. القصد من ذلك أن منحى التكتل على حساب التفرد أصبح ظاهرة عالمية، تتيح أمام دول مجلس التعاون، فرصة تطوير هياكله، وبنائه الداخلية نحو المزيد من التماسك والتوحد.
2. الزخم الداخلي الشعبي، إن كان على مستوى المواطن الفرد، أو على صعيد منظمات المجتمع المدني، فجميع أصواتها تنادي بالمزيد من اللحمة، وتناشد الحكام بحث الخطى نحو الانتقال من الحالة الراهنة إلى ما هو أكثر تماسكاً. ولعل قيام منظمات خليجية من مستوى «منتدى التنمية الخليجي»، أو حتى الدورات الرياضية الخليجية، إنما هي تعبير واضح عن ذلك الزخم الجماهير الذي يمكن تحويله من مجرد دعوات ومناشدات إلى خطط وبرامج.
3. الدعوات الرسمية، ومن بينها تلك التي أطلقها صاحب الجلالة عاهل البلاد المفدى، وتلقفها خادم الحرمين الشريفين، عندما دعا، هذا الأخير إلى أن الوقت قد حان للانتقال من حالة التنسيق الراهنة إلى مستوى الاتحاد الواعدة. ربما يرد البعض أن مثل تلك الدعوات غير مبنية على قراءة علمية متأنية للأوضاع السائدة في المنطقة، لكنها بالقدر نفسه، فرصة أمام من يريد أن يخطو في اتجاه التوحد، في وسعه أن يلتقطها ويبني عليها مشروعاً متكاملاً يقود إلى حالة أرقى مما هي عليه أوضاع المجلس الخليجي اليوم.
تلك كانت خطوات سرناها مع مشوار الوحدة الخليجية، تناولنا فيها أربعة محاور تلم بأي مشروع، تجارياً صغيراً كان ذلك المشروع، أم سياسياً ضخماً بمستوى بناء هياكل وأركان كيان سياسي مثل مجلس التعاون الخليجي. ومن ثم فمن يريد أن يتصدى لمثل هذا المشروع التاريخي عليه، وبدون أية مساومة، أن يراعي، بحذق ودقة متناهيين ما أشير إليه عند سرد تلك المحاور. فمن يرى مكامن الضعف ويغفل عناصر القوة، سيخضع نفسه، وبقرار ذاتي محض إلى نظرة سوداوية انهزامية تعميه عن رؤية عناصر القوة التي بين يدي دول مجلس التعاون. لكن بالقدر نفسه من يسبح في نهر القوة فقط دون أن يأخذ حساب العناصر الأخرى، سيكتشف، لكن في مرحلة متأخرة، أنه أسير نظرة طوباوية ترغمه على الغرق في ذلك النهر، حتى في أكثر مسارات ذلك النهر ضحالة.
المنطق ذاته ينطبق على من يرى الأخطار ويهمل الفرص، فهو الآخر سيصاب بلوثة انهزامية ترغمه على الاستسلام في منتصف الطريق والتخلي عن دعوات التوحد والخضوع لشروط من ينادي بالتمزق. ولا يختلف وضع من يحلم بالفرص ويقفز فوق الأخطار، فهو الآخر سيجد نفسه تائهاً في طريق غير ملم بمعالمها، وما يتربص به في منعطفاتها التي يمكن أن تدمره في لحظة لم يتوقعها ولم يكن مستعداً لتلقي ضرباتها.
في اختصار هناك حاجة ماسة، إلى مشروع اتحادي متكامل، ينطلق من حقيقة قائمة، وهي أن لبنة ذلك الاتحاد ليست حلماً، ولا أمنية، وإنما هي كيان ملموس راسخ فوق خارطة العالم السياسية، وهو كيان نال اعتراف العالم، ومن ثم من الخطأ التراجع عما تم تحقيقه أو التفريط فيما جرى إنجازه. وبالتالي فليس هناك من مبرر للالتفات نحو الخلف، فمنطق الرؤية الصائبة يفرض على الجميع التقدم نحو الأمام في المسيرة الاتحادية، وهذا ما يطمح له جميع المخلصين من أبناء دول مجلس التعاون الخليجي.