الديمقراطية -أي ديمقراطية في العالم- لا تستقيم دون وجود معارضة حقيقية وفاعلة يكون بإمكانها ممارسة دورها السياسي بكل حرية -وضمن إطار القانون- في طرح البدائل وفي التنافس الحر على كسب الجمهور.. كما إنه من المشروع تماماً للمعارضة أن تعمل ضمن منطق العمل الجبهوي لرص صفوفها، وبيان قدرتها على التأثير في الحياة السياسية، وهو أمر مشروع تماماً طالما أنه لا ينتهك قانوناً أو يخل بالقيم الثابتة للمجتمع، لكن -وفي ذات الوقت- يجب أن تكون هذه المعارضة قادرة على التعاطي مع الانتقادات التي تتوجه إليها وإلى مواقفها بقدر كبير من الروح الديمقراطية التي تعلن صباحا مساء بأنها تناضل من أجله، خصوصاً أن هذا النقد الموضوعي لبعض ممارسات بعض اليسار في المعارضة هدفه الأساسي التذكير بالمنابت والأصول الناظمة للحركات اليسارية الديمقراطية، منذ نشأتها وفي سياق تطورها التاريخي والسياسي، وبطبيعة الإشكالات التي تواجه هذا اليسار في سعيه لتحقيق أهدافه، وفي مقدمتها نوعية التحالفات التي يقيمها في سياق التحولات التي يشهدها العالم العربي حالياً، بعد اختلاط الأوراق وتداخلها إلى درجة أصبح فيها بعض اليسار “مسخاً” لا يربطه باليسار وتاريخه ونضاله وفكره إلا خيط واه.. فعندما يلبس مناضل يساري عمامة دينية (مزيفة طبعاً) من أجل أن يتماهى مع أحلافه الجدد، فتلك كارثة حقيقية، فضلاً عن كونها صورة كاريكاتيرية للنضال السياسي في زمن التراجع عن الثوابت!!
وعندما ينتقل يساري يفتخر بيساريته إلى جمهورية إيران الإسلامية -وهي في الوقت الحالي دولة معادية رسمياً على الأقل من جهتها- ومن خلال إعلامها الطائفي يطل على الناس ممجداً لنظام الملالي، ومعبراً عن اعتزازه بالمناضلين والمقاتلين الذين يدمرون الاقتصاد الوطني، ويحثهم على مواصلة القتال لتدمير هذا الاقتصاد، فتلك العلامة القاطعة على وجود حالة من الشيزوفرينيا الفكرية والسياسية الحادة وفقدان البوصلة السياسية والدخول في متاهة الضياع والارتباك المفضي إلى الموت السريري..
السؤال الذي كنا نطرحه قبل انتشار مثل هذا الوباء الجديد هو: لماذا أخفقت البرامج التي طرحها هذا اليسار في تحقيق التحولات المطلوبة على أرض الواقع؟! ولماذا لم يصبح اليسار قوة تغيير حقيقية؟! ولماذا تحول هذا اليسار إلى الارتباط بمنظومة الاستبداد والخرافة الطائفية؟! كما كنا في السابق نقول إن أهم المشكلات التي أدّت باليسار إلى أزمته، وبالتالي إلى عدم إنتاج وعي مطابق لحركة الواقع، هو اعتماده بالدرجة الأولى على استعارة مقولات نظرية جاهزة، أنتجتها الأحزاب الماركسية العالمية دون تكييفها وإعادة إنتاجها وفقاً لقوانين الواقع المحلي ومحدداته، والاكتفاء بإسقاطها على واقعنا، دون النظر في متطلبات هذا الواقع وإشكالاته، لكن السؤال الذي بتنا نطرحه اليوم هو: لماذا فقد اليسار يساريته؟ لماذا بات لا يرى أي مشكلة في التحالف مع الأحزاب والحركات الدينية- الطائفية غير الديمقراطية، والتي لا تؤمن بالعدالة الاجتماعية ولا تؤمن بالحريات العامة والفردية وتمنح زعماءها الروحيين قدسية مطلقة تجعلهم فوق المساءلة وتجبر حلفاءها على الالتزام بذلك؟
إن القوى الطائفية الجديدة تستخدم بعض قوى اليسار وحتى الليبراليين لتجميل واجهتها الإقصائية المظلمة إلى حين الوصول إلى السلطة وبعد ذلك يتم التخلص من “الماكياج السياسي” الزائد، ويكفي هنا أن نستذكر تجربة الحركة الوطنية التقدمية الإيرانية مع قوى الإقصاء الطائفية بعيد الثورة الإيرانية، فبعد استيلائها على السلطة قامت بإبعاد الحركة الوطنية من الحكومة، وإبعاد الحركة اليسارية من التراب الإيراني، بل وقامت بإغلاق الجامعات لمدة عامين لتجفيف منابع الفكر الوطني الديمقراطي، ومن ثمة إلغاء الحريات السياسية (إغلاق الجرائد - حل الأحزاب - اعتقال وإعدام المعارضين لنظام الخميني - تشديد الإجراءات القمعية ضد الحركة العمالية والنقابية بذريعة مخالفتها لقيم الجمهورية الإسلامية) كما تم لاحقاً وخلال سنوات معدودة تصفية ما تبقى من المكتسبات التي حققتها المرأة الإيرانية في نضالها من أجل المساواة والحرية، وباختصار كان الحلف مع القوى الدينية الطائفية خطأ فادحاً ارتكبته القوى التقدمية في إيران، وها هي إلى اليوم، وبعد مضي أكثر من 30 عاماً تدفع ثمن ذلك الحلف غير المقدس..
.. وللحديث صلة