المتأمل في السياسات اللغوية الحديثة في المغرب العربي يجد نفسه حالاً أمام بَدَاهَة التناقض المركزي لهذه السياسة بين مصطلحي التعريب والفرانكفونية اللّذَين يحيلان إلى التَّوتّر القائم بين العربية والفرنسية.
أي بين الهوية العربية والهوية الضاغطة. فاللغة الفرنسية في المغرب العربي تَردّ إلى الاستعمار، تتأصل فيه وتذكر بأثره ما لم تجدده، أما اللغة العربية فترجع إلى الأصل، كما يحمل هذا التناقض نوعاً من التَّعاَرض الوجْدَاني.
لا يحتاج التعارض الوجداني إلى برهنة، فهو واضح وضوحاً تاماً حتى في سياسة التعريب نفسها، ففي حين حمل كل بلد من بلدان المغرب العربي (خصوصا تونس، والجزائر، والمغرب) لواء التعريب، يبقى الواقع العملي هو واقع ازدواجية لغوية عربية - فرنسية، وهذا في الوقت الذي يقال إن التعريب هو الواجهة الثقافية للاستقلال وإن الفرانكفونية هي بمثابة محاولة مقنعة لغزو ثقافي جديد، إلا أن التعارض الوجداني تجاه اللغة الفرنسية إنما هو تعبير عن تعارض وجداني أكثر جذرية يهم التوجهات العميقة للثقافة المغاربية، لكن قد تبدو اللغة الفرنسية وكأنها لعبت دوراً حاسماً في التطور الثقافي بالمغرب العربي، إذ لم تتصل مجتمعات هذه المنطقة بما يُصطلح على تسميته بالحداثة إلا عبر هذه اللغة، ولكن من المؤسف أن هذا الدخول إلى الحداثة لم يتم بمحض الاختيار وإنما فرض في إطار الاستعمار.
ان الفضاء المغاربي هو فضاء عربي إسلامي رغم وجود نسبة مهمة من البربر فيه، ولكن الواقع يقول أيضاً إن البربر قد أصبحوا نوعاً ما عرباً عن طريق الإسلام، وقد يكون ذلك جزءًا من المشكلة أو جزءًا من الحل لست أدري. فالثقافة العربية إسلامية والثقافة الإسلامية هي عربية نوعاً ما لأن اللغة العربية مسَّتها مساً عميقاً، ثم إن البربر في المغرب العربي لا يشعرون بما يشعر به الكرد من تمييز ضدهم؛ فهم مندرجون في الفضاء المواطني بشكل كامل تقريباً، لكن المشكلة هي أن كل ما هو عربي يمكن أن يعتبرونه إسلامياً، وبالتالي عندما نعرب أي نص عندنا يسقط في الإسلامية لأن الإسلام استحوذ على اللغة العربية، بينما لا علاقة للغة العربية بالدين في الشرق العربي.
ويجب أن نعترف أيضاً أن تأثير الثقافة الفرنسية كان تأثيراً سيئاً، ففرنسا لم تتخلّ عن التبشير، لكنها علمنته ليصبح “تبشيراً فرنسياً”.
لكن تلك “الإرسالية” الفرنسية خلقت لدى الشعب المغاربي شعوراً أنها ثقافة استعمارية تبشيرية لا ثقافة حقيقية، التأثير الفرنسي سيئ لأنه خلق حالة فصامية خلق لدى الناس نوعاً من الازدواجية بين شخصيتهم الحقيقية والثقافة الاستعمارية لذا مازلنا نرى، بعد قرن ونصف من الاستعمار ومن نشر اللغة والثقافة الفرنسية تلك التيارات الأصولية تنتشر بين الشباب المغاربي، وذلك انه لا يوجد استيعاب حقيقي للحداثة بل تلقين للثقافة الاستعمارية التي ووجهت ولاتزال تواجه بمواقف رافضة. ولذلك يبدو وضع الفرنكفونيين مأسوياً لأنهم يكتبون عن قضايا لا تهم الناس، أي أنهم كتّاب من دون قرّاء، فالقراء الفقراء لا يقرؤون الكتابات التي تكتب بالفرنسية، والقارئ الفرنسي لا يقرأ تلك الكتابات لأنها لا تتناول الأمور التي تهمه، وهذا الواقع خلق ظاهرة ضعضعة لدى الباحثين والمثقفين المغاربيين الذين يعودون إلى بلادهم، فيكتبون أعمالاً وكأنها أعمال لمستشرقين من حيث الأفكار والرؤية، يكتبون بالفرنسية ويفكرون كالفرنسيين، كأنهم مستشرقون محليّون.