يؤكد أرسطو أن الفلسفة تدرس مبادئ الكليات وأن التاريخ منشغل بدراسة الجزئيات، لأن الفلسفة تعبير عن التوق العقلاني للفهم والتفسير والتحليل والمنطق. وإذا ما انطلقنا من المنظور الأرسطي ومما يسميه مبادئ الكليات؛ فإننا لا يمكن أن نعثر على أي مبدأ من مبادئ الكليات فيما أقدم عليه نابليون في حملته الروسية بإرسال 500 ألف جندي عام 1812م متسبباً في هلاك 470 ألفاً منهم، أو في وضع قنابل بدائية في حاويات القمامة لقتل عمال النظافة أو عابري السبيل في سياق أي «نضال» سياسي من أجل الحرية والديمقراطية!! أن يحترق البلد ويتم التعدي المنهجي على الحرية والحياة والحقوق، بعنوان الحرية والسلمية، فليس للفكر أو للمنطق ما يقوله في فهم هذا الشأن الغريب.
أن يعلن ائتلاف المعارضة عن وثيقة اللاعنف، لتكون مكملة لوثيقة المنامة، استكمالاً للبنيان السياسي لمنظور المعارضة للتحول الديمقراطي وآليات هذا التحول أمر مقدر ولا شك، فلا يمتلك العاقل إلا أن يثمن أي كلمة أو جهد أو رأي أو نداء في مواجهة العنف. لكن يبدو الإعلان عن هذه الوثيقة وكأنه في واد والممارسة العملية على الأرض في واد آخر، بما يقربها إلى مجرد شهادة إبراء ذمة، أكثر منها إلى موقف مكرس في أفعال حقيقية وجهد وطني صادق لإيقاف دورة العنف والعنف المضاد. لأن من يريد إيقاف هذه الدائرة الجهنمية المهلكة للمجتمع والدولة معاً عليه أن يجسد ذلك من خلال جهد عملي في التحكم في دائرته ومداخلها وخارجها، خصوصاً إذا كان يمتلك هذه القدرة على التأثير. كما إن التبرؤ من العنف لا يمكن أن يقتصر على مجرد الإدانة اللفظية أو الورقية للأعمال العنيفة مهما كان مصدرها، بل يقتضي أيضاً وبالدرجة الأولى التوقف عملياً على ممارسة العنف اللفظي والإعلامي والإرهاب الفكري، لأن الحرب أولها كلام، مثلما يقول العربي، ولأن الحروب والمواجهات والعنف والقتل والإرهاب تبنى جميعها في العقول والنفوس عبر التحريض والفتاوى اليومية المستجدة او المنقولة والمستجلبة من تراث الكراهية.
إن معاداة العنف لا تحتاج إلى وثيقة بل إلى صدق في القول وإخلاص في الممارسة العملية على الأرض، وبين أوساط الشباب، ونشر ثقافة التسامح والمحبة والأخوة الإنسانية، كما يحتاج إلى نبذ كل ما يعزز الكراهية والحقد وما يبرر التعدي على الإنسان في أي مكان وتحت أي ذريعة، مع إدراك كامل أن العنف ليس مجرد إلقاء مولوتوف أو سيخ أو قنبلة أو حجارة أو التعدي على نطاق الدولة أو نطاق حرية الآخرين، إنه أيضاً تلك الكلمات النابية والخطب التحريضية والشعارات المقززة والمثيرة للنعرات بكافة أشكالها.
اللاعنف ليس قصة نرويها في بيان أو وثيقة براء للخروج من ورطة أخلاقية وسياسية، ثم ننخرط بعد ذلك في نشر خطابات الكراهية وسياسة التحريض والتبرير، بما يوحي بأن وثيقة اللاعنف مرفوعة إلى من يهمه الأمر في الخارج وليس إلى الداخل.
إن أسوأ شيء في الخطاب السياسي هو أن يكون لمجرد الاستهلاك، وليس للمساهمة في حل مشكلات خطيرة تحتاج إلى تضافر الجهود، كما إن تحويل معاداة العنف إلى مجرد عمل دعائي لا يمكن أن يتقدم بنا نحو الحل، الحل يعني تغيير اللغة والمنطق والرؤية والفلسفة والنوايا والعودة إلى سماحة هذا الشعب وتاريخه في التعايش والتواصل والتعاون.