ما هو أهم من الضربة التي يمكن أن تتلقاها طهران هو مدى الضرر الذي يمكن أن تلحقه بها، ليس في نطاق مشروعها النووية فحسب، إنما أيضاً في صلب أوضاعها الاقتصادية، وأيضاً في المكانة التي تحتلها اليوم في أية معادلة تصاغ لترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط الجديد، خصوصاً وأن القوة النووية هي من بين العوامل التي أوصلت طهران إلى تلك المكانة. فهل سيقتصر الأمر كما تهدف بعض تلك السيناريوهات إلى مجرد إعاقة تطور البرنامج النووي الإيراني، ومن ثم سينحصر الدمار في ذلك الإطار الضيق فقط، أم أن فضاء الضربة سيتسع كي يمس مكامن قوة أخرى تستخدمها طهران في تعزيز مواقعها الشرق أوسطية، ومن ثم تأتي الحرب كي تمنعها من تحقيق ذلك؟.
وفي الاتجاه ذاته، يبرز تساؤل أكثر شمولية هو؛ هل سيقف الضرر والدمار عند حدود إيران السياسية، أم أنه سيشمل أيضاً حلفاءها العلنيين من أمثال نظام بشار الأسد في سوريا وحزب الله في لبنان، وآخرين مخفيين لا تسمح الظروف الإفصاح عن طبيعة العلاقة التي تربطهم بطهران؟ مثل هذه التساؤلات وأخرى غيرها كانت مثار نقاشات واسعة، برز خلالها تباين آراء الأفراد والمؤسسات ذات العلاقة بالقرار الأمريكي بشأن توجيه ضربة لإيران من عدمه أولاً، ومدى الضرر الذي يمكن أن تسببه ثانياً، والتوقيت الصحيح للضربة ثالثاً.
ولعل مراجعة مقالات مثل “توقيت ضرب إيران” المنشور في عدد يناير 2012 من مجلة “فورين أفيرز” صفحة 76-86، لكاتبه عضو مجلس العلاقات الخارجية والبروفيسور في جامعة جورج تاون”ماثيو كرونيغ” الذي قارن فيه بشيء من التفصيل بين محبذي شن حرب على إيران ومن يقف ضدها، مشيراً إلى أنه “لسنوات عدة.. ناقش النقاد وصانعو السياسة الأمريكية ما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة مهاجمة إيران ومحاولة القضاء على منشآتها النووية. وقد جادل أنصار الضربة أن الشيء الوحيد الأسوأ من العمل العسكري ضد إيران سيكون إيران المسلحة نووياً”. وفي رده على أولئك “المنتقدين الذين حذروا من أن مثل هذه الغارة يمكن أن تبوء بالفشل على الأرجح، وفي حال نجاحها في تحقيق أهدافها العسكرية في ضرب المراكز النووية، فمن شأنها أن تشعل حرباً كاملة وأزمة اقتصادية عالمية. وحثوا الولايات المتحدة على الاعتماد على الخيارات غير العسكرية، مثل الدبلوماسية والعقوبات والعمليات السرية، لمنع إيران من امتلاك قنبلة نووية”، يصر كروينغ على أهمية وصحة اللجوء إلى الخيار العسكري الذي يدعو إليه صراحة في نهاية تلك المقالة، وبرأي قاطع يؤكد فيه “أن الخيار العسكري هو الأفضل، فيحرض على ضرب الجمهورية الإسلامية.. فالمشككين في العمل العسكري لا يقدرون الخطر الحقيقي الذي تشكله إيران المسلحة نووياً بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأبعد منه”.
مقابل تلك الدعوات المنادية للأخذ بالحل العسكري الخالص، يرد على كروينغ، الباحث الاستراتيجي أمريكي آخر في عدد مارس من المجلة ذاتها، صفحة 166-173، وتحت عنوان “ليس هناك وقت محدد لشن هجوم على إيران”، نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي، مستشار الرئيس الأميركي باراك أوباما، والباحث المساعد في برنامج الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون، كولن كال، ومن معسكر المنادين بالحل “الاحتوائي” الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى التعايش مع “إيران نووية مدجنة”، في ذلك المقال الذي خصصه كال للرد على دعوات كروينغ المنادية للحرب، يبرز كال الخسائر التي سيتكبدها الطرفان، وفوق كل ذلك “ستساعد الحرب إيران على تكتيل صفوفها الداخلية، الأمر الذي من شانه إطالة زمن الحرب وتورط الولايات المتحدة فيها”، مما يثقل على الاقتصاد الأمريكي المتهالك.
ويتفق كال، كما يرد في تقرير صادر عن “معهد واشنطن” الأمريكي مع مسؤول أمريكي هو جيمي فلاي الذي عمل في مجلس الأمن القومي ووزارة الدفاع في عهد الرئيس بوش “على ضرورة أن تكون أولوية واشنطن الخارجية منع إيران من حيازة أسلحة نووية، وعلى أنه يفضل ألا تقوم إسرائيل بعملية عسكرية تستهدف المنشآت النووية الإيرانية هذا العام”، ويضيف التقرير “إن التأخير في توجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووي الإيراني ربما يجعل الولايات المتحدة تتبنى بشكل اضطراري سياسة الاحتواء العرضية، وفي هذه سيجد الغرب نفسه مجبراً على قبول الواقع الإيراني”. ويحذر التقرير من خطورة النتائج العكسية الناجمة عن تلك الحرب لاستغلالها من قبل النظام الإيراني في “إثارة السخط الشعبي الإيراني ضد الولايات المتحدة وليس ضد النظام”.
ويؤكد كال دعواته المنادية للأخذ بالحل الاحتوائي في مقابلة أجرتها معه “الحياة” اللندنية قال فيها “لا أعرف إذا كانت إسرائيل اتخذت قرار ضرب إيران قبل الانتخابات في 6 نوفمبر المقبل، معلناً وجود تلاقٍ حول هدف منع إيران من امتلاك سلاح نووي، باعتبار أنه يصب في مصلحة أمريكا أيضاً، مشدداً على أن الوقت ما زال متاحاً للدبلوماسية، والحل الأخير هو استخدام القوة”.
في ضوء قراءة استراتيجية لتلك التقارير الاستراتيجية التي وضعها خبراء في شؤون إيران والشرق الأوسط، يمكن الخروج أن خيط “الخيار الاحتوائي” بدأ يقصر طوله، الأمر الذي يضع واشنطن، وربما بالتنسيق مع تل أبيب، أمام الخيار الأخير وهو توجيه ضربة لإيران تكون سريعة وخاطفة وموجعة، وذات نطاق ضيق نسبياً، بحيث تعيق تقدم مشروع طهران النووي لسنوات قادمة، لكنها ليست مؤلمة إلى الدرجة التي تجر الولايات المتحدة، مضطرة حينها، إلى مواجهات أخرى واسعة النطاق وطويلة الأمد على حد سواء.
في هذا السياق ربما تعمل واشنطن على أن تقلص الضربة قدر الإمكان من ضحاياها من السكان والمواقع الاقتصادية، وحصر الأهداف في “المراكز النووية”، رغم أن البعض من هذه الأخيرة أنشأ في مواقع مكتظة السكان وذات أهمية اقتصادية.
على نحو مواز، من غير المستبعد أن تلجأ واشنطن للحيلولة دون تماسك الجبهة الداخلية الإيرانية، وهو أمر ورد في تحذيرات أولئك الداعين للأخذ باستراتيجية الاحتواء إلى الاستعانة بقوى إيرانية داخلية مثل “منظمة مجاهدي خلق” من أجل إشعال فتنة حرب داخلية تضعف القدرة الدفاعية الإيرانية، وتحول دون لجوء طهران إلى سياسة توسيع نطاق الرد خارج أراضيها. ولعل رفع اسم المنظمة مؤخراً من قائمة القوى الإرهابية فيه الكثير مما يشير إلى احتمال استعانة واشنطن بتلك المنظمة.
لقد بدأ العد العكسي في ساعة توقيت توجيه ضربة لطهران، وهذا يضع العواصم العرب في حال نشوب تلك الحرب أما خيارات صعبة ومعقدة، خصوصاً بعد الأحداث المعارضة التي عرفتها بعض المناطق العربية، والتي لم تكن بعيدة عن التعاطف الإيراني، دون أن يقودنا ذلك إلى اتهامها بالعمالة لإيران لما في ذلك من تسطيح للمسألة. لذا فإن كان على إيران أن تدرس استعداداتها لتلك الضربة، وهو أمر يبدو أنها بدأت تقوم به وفي وقت مبكر يسبق تلقيها لها، فمن الأجدى بالعواصم العربية أن تقرأ سيناريوهات تلك الحرب في وقت أبكر، وتكون أكثر استعداداً لنتائجها، لأنها لن تكون في مأمن تلك النتائج. فلربما تكون خسائر من يكتوي بنتائج الحرب أسوأ من تلسعه نيران أوارها.