تابعت بالكثير من الحزن الممزوج بشيء من الروح الانهزامية، ردود الفعل العربية والتداعيات التي رافقتها على الصعيدين الشعبي والرسمي، بكافة تفاصيلها، الشعبية العنيفة، والرسمية اللفظية. ما أثار الحزن والكآبة الممزوجين بشعور الهزيمة، هو تحول ردود الفعل تلك، وتحديداً الرسمية، إلى مجموعة من الاعتذارات للإدارة الأمريكية التي لم يصدر عنها حتى الآن، أي شكل من أشكال التنصل اللفظي عن مسؤوليتها لما تم تحت أعينها، وفوق أراضيها من إهانة لشخصية عظيمة مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، لها مكانتها التي يعترف بها، طواعية، حتى من غير المسلمين.
بل لقد وصل الأمر إلى صدور بعض الفتاوى الشرعية التي تذهب إلى القول بتحريم “اشتباكات محيط السفارة الأمريكية في مصر”، مؤكدة أن “الدفاع عن الرسول الكريم ضد الفيلم المسيء له لا يبرر العنف والاعتداء وترويع الدبلوماسيين الأمريكيين” مضيفة أن الدين، كما قالت تلك الفتاوى “يمنعنا من القيام بمثل هذه السلوكيات، وأن ما حدث أمام السفارة الأمريكية مخالف لشرع الله”.
ليس هناك من يدعو للعنف أو يبرره، مهما كانت الدوافع، لكن اقتصار الإدانة والتحريم على رد الفعل، وإهمال الحديث عن الفعل ذاته الذي قاد إلى ردود الفعل تلك، فيه الكثير من التجني، ويعكس ذهنية دفاعية غير مبررة. لا أريد أن أدخل في جدل فقهي يستند إلى قواعد شرعية في هذا المجال، لأني أحرم على نفسي الدخول في نقاشات لا أحمل مؤهلات الخوض في بحورها، خاصة وأني أتفق مع الذهاب إلى عدم التشجيع على اللجوء إلى العنف، لكن ينبغي أن يسبق، شجب ردة فعل تأخذ بالعنف كما في حالة مثل الموقف من فيلم يسيء للمعتقدات مثل فيلم “براءة المسلمين” الهابط، موقف واضح يدين ذلك العمل، ويدعو إلى إيقافه، بغض النظر عن دوافعه، والأكلاف المادية والمعنوية المترتبة على ذلك.
لا أريد الاستعانة بـ “نظرية المؤامرة”، كي أذهب إلى القول بأنه يصعب القبول بأن مثل ذلك الفيلم، مجرد هفوة شخصية أو صادرة عن مجموعة من الأفراد، أخطأت التقدير عندما أساءت إلى شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ يصعب القبول بأن الزمن الذي استغرقه جمع تبرعات من 100 شخصية يهودية، كي تصل إلى 5 ملايين دولار، وفوق الأراضي الأمريكية، كل ذلك تم بعيداً عن أسماع وأبصار المؤسسات الأمنية الأمريكية أولاً، والصهيونية ثانياً، ومن ثم، فإن لم يكن الفيلم من إنتاجها المباشر، فمن المستحيل أن نقبل بمقولة أنها غير موافقة عليه، علناً أو ضمناً. ومن ثم فهناك مسؤولية حقيقية على الإدارة الأمريكية قبل أي طرف آخر أن يتحملها، وأن تتحمل معها ردود الفعل عليها، بما فيها تلك العنيفة التي وصلت إلى قتل السفير الأمريكي الذي تباكت عليه وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون في أول خطاب لها بعد الهجوم على السفارة الأمريكية في طرابلس الغرب.
من هنا فإن المسؤولية الأجنبية تقع، أولاً وقبل أي شيء آخر، على عاتق الإدارة الأمريكية، كما أثبتنا في مقالة أمس، التي افتعلت، وشجعت، وغذت، ورعت، وفي حالات كثيرة خططت ونفذت، مشاريع وبرامج كثيرة تقوم على إثارة الأحقاد بين الأديان، وتحويل الاختلافات فيما بينها إلى عناصر تخدم استراتيجيتها السياسية، التي تبيح لها تنفيذ سياسة العربدة التي لم تكف عن القيام بها منذ غزوها لأفغانستان في مطلع هذا القرن، وماتزال تمارسها في العراق وفي مناطق أخرى من الجزيرة العربية والخليج.
لكن ما يثير الحزن الممزوج بمذاق الهزيمة المر، في نفس المواطن العربي، وهو يتابع ردود الفعل تلك وتداعياتها، هو غياب معرفة المؤسسات العربية بما فيها تلك النشطة في الأراضي الأمريكية بأي شيء عن ذلك الفيلم الهابط، حتى رأى النور، وحصل ما حصل. فمن الصعوبة بمكان أن يرضى مثل هذا المواطن القبول، مهما حاولت تلك المؤسسات، بما فيها البعثات الدبلوماسية، التي تكلف العرب الكثير من أموالهم، القبول بأن كل ذلك يتم في جهل كامل مطبق عنه من لدن تلك المؤسسات، التي يبدو أن مهماتها ماتزال محصورة في الجوانب الاجتماعية الترفيهية، وليس السياسية الثقافية كما ينبغي لها أن تكون. إن كانت تلك المؤسسات على علم وأهملت واجبها فتلك مصيبة، وإن كانت جاهلة فالمصيبة أعظم.
لكن بعيداً عن كل ذلك نجد أنفسنا أمام علامة استفهام استنكارية، تسائل جميع العرب ممن لديهم القدرة المالية والحضور السياسي في الولايات المتحدة لماذا لو يبدأون، وليس الوقت متأخراً، في وضع حجر أساس بناء منظمات حكومية وغير حكومية، تتغلغل في نسيج المجتمع الأمريكي، وتكون قادرة على معرفة أمور مثل ذلك الفيلم الهابط، لحظة التفكير فيها، وليس عند الانتهاء منها؟ حينها ستكون المواجهة أكثر سهولة، والنتائج أكثر إيجابية للطرف العربي، وليس أعدائه، كما نشاهد اليوم.
وإذا ما اتفقنا بأن الأوان قد آن كي يبدأ العرب في بناء تلك المؤسسات، فلا بد كي توضع الأمور في نصابها، وتأتي الاستثمارات بأوكلها، مراعاة بعض المعايير، التي حتى وإن بدت شكلية في مظهرها، لكنها جوهرية في صلبها:
1- تحاشي الانطلاق، عند وضع استراتيجية تلك المؤسسات، من ذهنية ردة الفعل، والأخذ بالرغبة في الفعل. فبينما تحصرنا الأولى في نطاق ضيق نزق، تتيح لنا الثانية المجال بتفكير واسع رحب. كل ذلك يساعد القائمين على مثل تلك المشروعات على امتلاك النظرة الشمولية التي تحتاجها مثل تلك المؤسسات كي تكون قادرة على خوض معارك الصراع التي ستواجهها مع منافساتها التي يسيطر عليها اليوم أعداء الإسلام والعروبة، وفي المقدمة منها المؤسسات الصهيونية، التي بحوزتها اليوم، وربما في المراحل المبكرة من تأسيسها، الأموال الضخمة، والعلاقات الوثيقة، وهما أكثر ما تحتاج لهما مثل هذه المنظمات التي نتحدث عنها.
2- عدم الوقوع في فخ أن الأمر لا يتجاوز توفير الأموال، وإغداقها في شكل “رشاوى”، حتى وإن أخذت صبغة التبرعات. لأن مثل تلك الاستراتيجية، قصيرة الأجل، وضحلة التأثير. إذ تفقد الأموال جدواها، ونسبة عالية من فعاليتها، ما لم تتحول إلى مشروعات مؤسساتية، قادرة على تلبية أهداف معينة، وعلى فترات طويلة، تستطيع من خلالها، غرس جذور الأهداف التي تسعى لتحقيقها عميقاً في تربة المجتمع الذي تخاطبه، أفراداً كانوا أعضاء ذلك المجتمع أم مؤسسات. هذا المدخل، يبعد الأموال المخصصة لتلك المشروعات عن بذور الفساد التي يمكن أن يحاول زرعها بعض ذوي النفوس الضعيفة والسلوكيات الرخيصة، وبالقدر ذاته، يمكن أن تنفذ منها القوى المعادية المتربصة بتلك المشروعات، من أجل الانقضاض عليها وإجهاض برامجها، وهي ماتزال في مراحله الجنينية، وقبل أن يشتد عودها، وحينها يصعب مواجهتها.
3- الأخذ بالنظرة الشاملة، المرتكزة على الرؤية المتكاملة، القادرة على المزج الخلاق بين الأفكار والاستراتيجيات المبدعة، والأموال المتوافرة المستمرة غير الناضبة، والكفاءات الفردية الخبيرة الماهرة، وصهرها في بوتقة واحدة، كي تخرج منها برامج ناجحة قادرة على التأثير الإيجابي لصالح القضايا العربية، ومن بينها القضايا الإسلامية في أوساط المجتمع الذي تخاطبه، بما فيه مؤسسات صنع القرار، وإدارات الحكم من جانب، ومواجهة الموجات المعادية المسيئة لنا، سياسياً أو دينياً، أو ثقافياً، وحتى اقتصادياً، من جانب آخر.
في عبارة مختصرة، لقد آن الأوان، وليس هناك ما يبرر التقاعس عن المهمة، أو يبيح التنصل من المسؤولية.