قال: لم أنت مجدوب مأخوذ بتلك الصورة وبذلك الصوت حتى كأنك وأنت معنا لست هنا؟
قلت: هذا الصوت يناديني، يصرخ يسرقني من نفسي، يعلن أن تعال قبل فوات الأوان، وما من أحد استطاع أن يناديني مثله، أن يعلن عن مأساة اللحظة الهاربة: كن صموتاً، واحجب نفسك، دع أحلامك وأشواقك تشرق وتغرب في حنايا قلبك، اطرح كنوزك جانباً، حتى تتمكن نجوم الليل العميق من النفاذ في بهجة إلى روحك كيف يستطيع الفؤاد أن يجد التعبير عنه؟
قال: كيف يستطيع إنسان أن يقرأ ما يجول بعقل غيره، وأن يعرف شخص آخَر ما به تعيش؟ قلت: هذه اللحظة الهاربة ليسَت غير أكذوبة، وإذا تحركت، عكَّرَت ماء الجدول، فاغتذ على أحلامِك، ولا تحرك ساكنًا، عش في نفسك، فهناك عالم بأكمله من الوجود يموج داخل روحك الراسخة كعالم من الفكر، والأفكار المسحورة، غير أن الضوضاء التي تنبعث من الخارج تصيبها بالصمم.. ووهج النهار يصيبها بالعمى، فتنقطع، أغانيها.. أواه.. با صديقي اصمت قليلاً لأسمع!
قال: أنت تعيش خارج الزمان والمكان، تعبث بالكلمات هرباً من مواجهة الأرض التي تدور فتنقلنا من الليل إلى النهار ومع دورانها تدور الدوائر علينا جميعاً، فانتبه أيها الغافل في ظلال الأوهام.
قلت: أمشي على السحاب وحيداً في الغيوم الراحلات، أمزق ستائر اللحظة، ضوء الشمس لا يكفي، لا شيء يحدث على الأرض غير صدى في القلب، حين تزهر البراعم، وحين الحياة تنطفئ ويبقى الصدى في الذاكرة بحجم الجليد والأحراش وتسبح فيه الفصول، تسكنه بيوت اليتامى، حين تنتظر ساعات الشوق، وحين يغني العشاق في العالم غبطتهم المهاجرة، تمتزج الأشياء تأتي وتذهب، تصل وترحل، حينها ابحث في الليلِ الغريب، الليلِ الذي يرافقُ النهارَ مثل طائر حزين، غافيًا قرب أيادٍ لا تعرفُ سوى عبادة الساعات!أمضي مثل غيمةٍ فوق الجبال، وكانت الجبال قلبي المنتهي! أقرأ في وجهَ الصخب المتسرع، وهذا البحر داخل فمي هو قلبي، هذا الفم داخل وجهي هو محنتي، وهذا الصوت الضعيف يشبه يدي: لا أرفعها، لا أحملها، لا أراها!!
قال: إنك لمجنون يهذي في أعقاب العشي، أو عاشق فاشل فاته قطار العاشرة، ينتظر العسل من الذباب، فماذا يفصلك عن الجنون أو الهذيان؟
قلت: يفصلني عنهما سرب من طيور الصباح.. عيون ترحل في ساحة البوح كل مساء بلا شرفات. يفصلني نجم يخيط رتوق الظلام بلا أجنحة، مطر أجَل انعكاس السماء لحظة البوح، غيوم حفرت طرقاً للكلمات، سرب من سنين، يحجب صوت الماء عن الماء، ذاك الشتاء الطويل يحوك أسماله حول القلوب، سجاد حزني وماء الزمان يرتق فواصل الروح بيننا..مازال يفصلني عنهما غياب اشتهاء وطول انتظار، وصمت العيون لحظة الانتظار، وصمت يشعل مصباح الصباح حين غياب الصوت في الصوت، وحين غياب الغياب.!!